يتواصل صعود أباطرة المال في العالم إلى كراسي الحكم، حيث بات العديد من الأثرياء يطمح إلى الجمع بين النفوذ المالي وكراسي السلطة. ففي الولايات المتحدة، لم تعد الثروة واقتناء اليخوت والعقارات والفنادق كافية لإشباع نهم المليارديرات وأصحاب الثروات للنفوذ، بل تعدّى نهمهم الدولارات والبنوك إلى تملّك زمام السلطة وتسلّم مفاتيح البيت الأبيض وإدارة شؤون الولايات المتحدة.
ومنذ ترشّح الملياردير روس بيرو للرئاسة في عام 1992، تزايد عدد المليارديرات الطامعين في رئاسة الولايات المتحدة، حتى تمكن الملياردير دونالد ترامب من الفوز بالرئاسة في انتخابات عام 2016.
وحتى الآن، أفرزت الترشيحات الرئاسية في الولايات المتحدة، ثلاثة مليارديرات هم: توماس ستوير رجل "وول ستريت"، ومايكل بلومبيرغ الذي أعلن في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ترشيحه رسمياً للمنصب عبر التنافس أولاً في "تمهيديات" الحزب الديمقراطي، وذلك إضافة إلى الرئيس الحالي دونالد ترامب الذي يواجه الآن مساءلة في الكونغرس تهدد حكمه وعزله على خلفية "أوكرانيا غيت".
وفي أميركا أيضا لم تقف شهوة المليارديرات فقط عند الجمع بين المال والشهرة والسلطة، بل تعدّتها لتصل إلى الدعم المالي للمرشحين على أمل الحصول على نفوذ في البيت الأبيض لاحقاً. وحسب بيانات الحملة الرئاسية التي نشرتها "بيزنس إنسايدر"، هناك نحو 100 ملياردير يدعمون المتنافسين على رئاسة الولايات المتحدة.
ووسط شرَه الأثرياء للسلطة والنفوذ، تتزايد الانتقادات، خاصة وسط التيار الليبرالي في الولايات المتحدة للمليارديرات الذين تتكدس ثرواتهم على حساب تزايد الفجوة بين الأثرياء والفقراء. ولكن في المقابل، فإن العديد من الجماعات العمالية والفقيرة في الأرياف دعمت حملة الرئيس الملياردير دونالد ترامب في عام 2016 وأوصلته للحكم. وربما تساهم في فوزه بدورة رئاسية ثانية في الانتخابات التي ستجرى في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وحسب تعليقات نشرتها مؤخرا صحيفة "واشنطن بوست"، فإن الانتقادات تتزايد لنفوذ الأثرياء في الولايات المتحدة، ويرى بعض المنتقدين أنه "ليس من الديمقراطية في شيء أن يملك واحد في المائة من الأغنياء نحو 40% من ثروة البلاد، ناهيك عن وصولهم إلى البيت الأبيض".
ولكن ليست الولايات المتحدة وحدها التي جمع فيها أثرياء بين السلطة والثروة، فهناك دول عدة قفز فيه أثرياء إلى كراسي الحكم. ففي إيطاليا، وصل إمبراطور الإعلام سيلفيو بيرلسكوني، الذي تقدّر ثروته بنحو 7.2 مليارات دولار، إلى منصب رئاسة الوزراء عدة مرات. وخلال فترة حكمه، واجه العديد من القضايا في المحاكم الإيطالية بسبب استغلال النفوذ السياسي وتوظيفه لخدمة مصالحة الخاصة.
وفي أوكرانيا، حقق الثري الأوكراني بيترو بوروشينكو، الذي يشتهر بـ"ملك الشوكولاتة" فوزاً ساحقاً في انتخابات الرئاسة في مايو/أيار 2014. ويملك بوروشينكو أكبر مصانع الحلويات في أوكرانيا، وهي مصانع شركة روشين. وفي العالم العربي، حكم الملياردير الراحل رفيق الحريري لبنان لفترتين بين 1992ـ 1998 و2000 - 2004، كما شغل نجله رجل الأعمال سعد الحريري رئاسة الوزراء في لبنان عدة مرات.
لكن في المقابل، هناك من يرى أن صعود المليارديرات إلى أنظمة الحكم قد يفيد اقتصاديات هذه الدول، خاصة مع امتلاك هؤلاء خبرة كبيرة في إدارة الأموال والثروات والتعامل مع أزمات التعثر المالي وغيرها. وقد استفاد المليارديرات في صعودهم للحكم في العالم الرأسمالي من فشل النخب السياسية وعجزها المتواصل عن التعامل مع قضايا البطالة وتراجع الدخول وتزايد الفقر وتراكم أزمات دولة الرفاه.
ومن الواضح أن البنوك المركزية ومنذ أزمة المال العالمية في عام 2018 لعبت دوراً رئيسياً في تكدس الثروات لدى الأثرياء، وزيادة نفوذهم، حيث تشير بيانات "غلوبال داتا" البريطانية إلى أن عدد المليارديرات قفز خلال الخمس سنوات حتى عام 2018 بنسبة 55% إلى 2230 مليارديرا، كما قفزت ثروة أغنى 500 ملياردير حول العالم، بنحو 1.2 ترليون دولار خلال العام الجاري 2019.
وحسب وكالة بلومبيرغ التي تنشر قائمة أسبوعية عن ثروات الأغنياء، فإنّ إجمالي ثروات أغنى 500 شخص حول العالم خلال العام 2019 قفزت بنحو 25% لتصل إلى 5.9 تريليونات دولار.
ويوظف الأثرياء حاجة النظم السياسة لإنعاش أسواق المال والحركة في تكديس الثروة والنفوذ، حيث يتحالفون مع البنوك المركزية في أميركا وأوروبا واليابان التي تمنحهم التمويل الرخيص للمتاجرة في أسواق المال. وقد مكن مناخ سياسات التيسير الكمي وسعر الفائدة السالبة التي سمحت للبنوك المركزية، وعلى رأسها مصرف الاحتياط الفدرالي "البنك المركزي الأميركي" بضخ تريليونات الدولارات في أسواق المال.
وكانت النتيجة تراكم الثروة في يد فئة قليلة من المجتمعات. وهذا العامل كانت نتيجته الحتمية تحول أباطرة المال من الاكتفاء بصناعة المال وكنز الثروات وترشيح وكلاء لهم في الحكم إلى الجمع بين عروش المال وكراسي الحكم.
ويأتي سعي مليارديرات للحكم في ظل تحولات كبرى شهدها العالم في العقد الثاني من القرن الجاري، حيث تجري تحولات رئيسية في أميركا من العولمة والانفتاح الاقتصادي إلى الانغلاق التجاري وحماية الأسواق المحلية. وفي أوروبا، يتواصل نمو التيارات الشعبوية وضمور الأحزاب التقليدية.
وعلى صعيد السياسات النقدية، تركت البنوك المركزية دورها الرئيسي في العمل على استقرار العملات ومحاصرة ارتفاع معدلات البطالة والتضخم إلى طباعة النقود وصناعة الثروة في أسواق المال لفئة "الواحد في المائة" من سكان العالم، وهي فئة المليارديرات.