هو رجل أعمال مصري أميركي، تجاوز السبعين من عمره، ليست له أي ميول سياسية، ولا يحب أو يكره من الساسة إلا بحسب ما يقدمه أي منهم، أو يمنعه، من فرص استثمارية ووظائف وأرباح.
تخرّج ارجل من جامعة مصرية، وهاجر وهو في أوائل العشرينيات وفي جيبه مائتا دولار فقط، وهو يمتلك مؤسسة كبيرة حالياً، أصلها في الولايات المتحدة، وفروعها في مصر والإمارات وقطر والسعودية، تؤتي أكلها كل حين، رغم المخاطر والصعوبات في منطقتنا الجميلة، وبغض النظر عن الثورات والصراعات والمؤامرات.
جاءني صوته عبر الهاتف صباح السبت، منشرحاً كعادته، ثم "دخل في الموضوع" مباشرةً، وسألني: ما شاهدته أمس، يفيد الاقتصاد المصري أم يضره؟
قلت له إن ما يحدث بالتأكيد سيكون في صالح الاقتصاد المصري على المدى الطويل. فلو سلّمنا أن الخروج للتعبير عن رفض سياسات النظام الحالي، وما قد يعقبه من تحولات، ربما يؤثر سلبياً على بعض المؤشرات الاقتصادية، إلا أنه سيكون بمثابة جراحة عاجلة، ثبت أنها لا تحتمل مزيداً من التأخير، ليعود بعدها الجسد الاقتصادي المصري إلى عافيته، ويعمل بكامل طاقاته، التي تعطل منها جزءٌ كبيرٌ خلال السنوات الماضية.
قال لي الرجل: لكن هناك إنجازات لا يمكن إنكارها، من تأسيس مدن حديثة، ومد طرق عريضة، وحفر قناة جديدة.
قلت له إن هناك بالفعل بعض الإنجازات فيما ذكر، لكنها جاءت بتكلفة كبيرة تحمّلها المواطن المصري من قوت يومه. فالمدن الحديثة تم تأسيسها بمليارات الجنيهات مما تم توفيره من رفع الدعم عن الكهرباء والغاز والبنزين والماء ورغيف العيش، رغم أن أغلب ما تم بناؤه من مدن لن يسكنه من تحمّلوا النصيب الأكبر من التكلفة. والطرق العريضة التي تم مدها تؤدي إلى أماكن لا يزورها من هم تحت خط الفقر، الذين يمثلون 30% من الشعب المصري، وفقاً لأحدث إحصاءات البنك الدولي.
أما القناة الجديدة التي تم حفرها فقد استنزفت 64 مليار جنيه من مدخرات المصريين، أي 8.5 مليارات دولار وقتها، كانت تمثل أكثر من نصف احتياطي النقد الأجنبي الحقيقي لدينا.
وتسبب الإصرار على إتمام الحفر في زمن قياسي في بعثرة الاحتياطي، الذي كان في واحدة من أضعف حالاته في تاريخ الاقتصاد المصري، قبل أن نضطر إلى الاستدانة من أجل بنائه من جديد. وما أقوله ليس من عندي، ولكن هذا ما صرح به محافظ البنك المركزي وقتها على الهواء في إحدى القنوات المصرية، قبل أن يتم الاستغناء عن خدماته.
وبعد أن بات واضحاً أن القناة الجديدة لم تحقق ما وعد به المسؤولون في الدولة من إيرادات إضافية بالعملة الصعبة، وتدفق الاستثمارات الأجنبية، وخلق ملايين الوظائف، خرج علينا رأس السلطة في مصر ليعلنها صريحة، أن الغرض من حفر القناة الجديدة لم يكن أبداً مادياً، وإنما فرضه الاحتياج إلى "مشروع قومي يلتف المصريون حوله"!
أضفت، مستغلاً حرص صديقي على سماع ما لا يسمعه من وسائل الإعلام المصري، التي لا تهتم إلا بتلميع صورة الزعيم، وإبراز "إنجازاته"، حقيقةً كانت أو وهماً، فقلت له إن المشروعات الضخمة التي يتحدث عنها جاءت على حساب تأخير وإلغاء تنفيذ تعهدات قُدمت للشعب المصري، من خلال ما نص عليه الدستور، من زيادة الإنفاق على الفئات الأضعف، وزيادة ميزانية التعليم والصحة والبحث العلمي، كما أنها لم تمثل تياراً مستمراً من الإيرادات أو تدفقات العملة الأجنبية، كالتي يحدثها تطوير التصنيع أو تحسين الإنتاج الزراعي، بصورة تدعم الصادرات المصرية. وكان طبيعياً أن يحدث ذلك من إدارة تفتخر بأنها لا تهتم بما تقدمه دراسات الجدوى الاقتصادية!
قال لي صديقي وهو يحاورني، لكن الدولة، ممثلة في الجيش، زادت من دورها الاقتصادي، وساهمت في تخفيض أسعار العديد من السلع والخدمات. قلت له إن ذلك تسبب في تدمير غير مباشر للاقتصاد، بعد أن تم إقصاء القطاع الخاص.
والمشكلة أن ذلك لم يحدث بفعل كفاءة الجهاز الإداري للدولة أو الجيش والمخابرات والشرطة، وإنما كان نتيجة لإعفاء تلك الجهات "السيادية" من دفع الضرائب والجمارك، مع توفير عمالة بدون تكلفة للعمل في مصانع وشركات تلك الجهات، وهو ما أدى إلى خروج القطاع الخاص من اللعبة، وحرم الدولة المصرية من مليارات الجنيهات. ويضاف إلى ذلك أن ماليات تلك الجهات لا تخضع لأي نوع من الرقابة أو المحاسبة، الأمر الذي يفتح أبواب الفساد، كما انكشف لنا مؤخراً.
هنا شعر صديقي أنه وجد ما يمكنه أن يدعم رغبته الواضحة في الحفاظ على الاستقرار، والبعد عما يهدد استمرار نجاح أعماله، رغم علمه أنها لا تتأثر أياً كانت الأحوال، فقال لي إنه لا يتفق مع الآراء المعارضة لبناء فندق فخم، حتى لو تجاوزت تكلفته 2 مليار جنيه.
واعتبر صديقي العزيز أن وجود تلك الفنادق يعتبر من ضروريات اجتذاب المستثمرين الأجانب، وأضاف رجل الأعمال متسائلاً بسخرية، "يعني لما أجيب مستثمرين من ألمانيا ولّا الصين، أنزّلهم في لوكاندة الحسين؟".
ورغم عدم اتفاقي مع ما قاله صديقي، ورغم أن في مصر مئات الفنادق التي تسمح باستضافة المستثمرين من كافة المستويات والبلدان، إلا أنني أظهرت له عدم اكتراثي بتلك النقطة، مشيراً إلى أن الأهم في مثل تلك الأمور هو وجود أكثر من رأي، ومشاركة ذوي الخبرة، للوصول إلى أفضل القرارات.
أما من يفترض أن العلم عنده وحده، فيطلب من الناس ألا يستمعوا لأحدٍ غيره، وأنه طبيب الفلاسفة، الذي يأتيه الوحي في المنام، والصادق الشريف، الذي لا يسمح بوجود أي نوع من الرقابة أو المحاسبة عليه وعلى من يعملون معه، فالرأي الأرجح أنه أفضل كثيراً مما نستحق.
وبناءً عليه فإننا ندعوه إلى أن يرحل، ويتركنا نولّي علينا من نستحقه من أسوياء هذا البلد.