الضرائب والاحتلال يُنهيان عهد سوق العطارين الذهبي في القدس

04 مايو 2015
جانب من سوق العطارين في القدس (العربي الجديد)
+ الخط -

سوق العطارين في البلدة القديمة من القدس، هو واحد من أقدم الأسواق الواقعة داخل أسوار المدينة المقدسة، يربط بين سوق باب خان الزيت وسوق الحصر، بموازاة سوق اللحامين، ويتميز بسقف مقوس يعود إلى الفترة المملوكية يغطي السوق كله، وقد اشتق السوق اسمه من المحلات التجارية العديدة التي تبيع البهارات والأعشاب الطبية.

تلك ما تذكره بطون الكتب من معلومات حتى عهد قريب من تاريخ القدس، بيد أن ما لا تذكره هذه الكتب واقع حال هذا السوق، وأسواق القدس القديمة، سواء خان الزيت أو اللحامين والسلسلة، وما جاوره من أسواق الباشورة والباشوات والحصر والبازار، وهي كانت ولا تزال

معالم تاريخية ترتبط قديماً وحاضراً ووجوداً بتاريخ القدس العريق، كما يقول التاجر المقدسي صلاح الحلحولي، الذي تحدث إلى "العربي الجديد".

يقول الحلحولي إن اسم السوق اشتق من محلات العطارة التي كانت تغلب على سائر المحلات فيه، وإن كان هناك مهن أخرى وجدت فيه مثل محلات المبيضين، وهم في الواقع حرفيون اشتهروا بتلميع أواني النحاس القديمة، وبالجوار منه سوق الصاغة والباشوات اللذين كانا يزدحمان بمحلات بيع الذهب، ويرتادهما في الغالب أغنياء القدس وميسورو الحال من مواطنيها.

ويتذكر الحلحولي، وهو واحد من الفعاليات الاقتصادية في البلدة القديمة، ومالك محل لبيع الملابس في سوق العطارين مرحلة ذهبية من تاريخ هذا السوق، حين كان يرتاده طلاب العطارة من سائر ضواحي القدس ومن مدن بعيدة في فلسطين، ليأخذوا احتياجاتهم من أدوية العطار وما تعده مهارته وخبرته من أعشاب للتداوي، وتوابل هندية وفارسية وصينية.

ولعل أشهر عائلتين ارتبط تاريخ العطارة بهما في هذا السوق، كما يذكر الحلحولي، هما عائلة الموقت وهي واحدة من العائلات المقدسية العريقة، وكذلك عائلة جمجوم، إذ لا تزال هاتان العائلتان تمتلكان محلات العطارة التي لا ينقطع مرتادوها عنها ينشدون العلاج، والتداوي الأعشاب، لكن هل بقي الحال على ما كان عليه؟

يقول الحلحولي: كل شيء تغير... انكمشت محلات العطارة في هذا السوق، رغم أنه ظل يحمل اسمه العريق "سوق العطارين"، وتحول كثيرون من أصحاب المحال فيه، إلى مهن أخرى، خاصة بيع الملابس الجاهزة والقطنيات والستائر، وسبب هذا التحول ما فرض على القدس من حصار، وافتتاح الاحتلال سوقا يهودية في حارة الشرف، حيث أقيم الحي اليهودي على أنقاضها بعد احتلال القدس عام 1967، وتحول هذا السوق إلى سوق منافس يستقطب السياح الأجانب، إضافة إلى فصل الضفة الغربية عن القدس، في عام 1993 بالحواجز العسكرية، فيما بلغ الفصل ذروته بإقامة جدار الفصل العنصري الذي ضرب عصب السوق ضربة قاسية".

اقرأ أيضاً: 2014 الأقسى على الفلسطينيين

قريباً من محلات الحلحولي، التقينا صلاح الموقت، شاب في مقتبل العمر، يدير مع شقيقه الطبيب إسحق المتخصص في تحضير الأدوية العشبية محلاً للعطور ووصفات علاجية. بدا

الموقت منهمكاً وهو يجهز طلبية من أعشاب علاج السكري، وإنقاص الوزن، والضعف الجنسي، لأحد تجار المفرق، وهي من أكثر ما يطلبه الزبائن كما يقول الموقت، إضافة إلى متطلبات أسرهم من التوابل والبهارات والزيوت الطبيعية.

عائلة الموقت، هي عائلة مقدسية عريقة تشتهر بمهنة العطارة في البلدة القديمة، وللعائلة أملاك وبيوت في البلدة القديمة وأراض تُحيط بأسوار القدس.

يذكر اسحق أن عائلته التي تنتسب إلى أحمد المحدث تعمل في هذه المهنة منذ 400 عام، وقد توارثها الآباء والأحفاد عن أجدادهم عندما جاؤوا من المغرب. ويُزاولُ مهنة العِطارة في مَحِلّه داخل سوق العطارين، لكن هنالك عديد من المحلات الأخرى المنتشرة خارج أسوار المدينة المقدسة، وفي مدن أخرى مملوكة لأفراد من العائلة أيضا.

يقول اسحق "نمارس هذه المهنة ونحاول أن نطورها، ولا نكتفي بتحضير الأعشاب، بل نقوم أيضا بإعداد أدوية وعلاجات ومستحضرات طبية تلبي الطلب المتزايد من قبل المواطنين عليها، حيث نشهد عودة للتداوي بالأعشاب وتفضيلها على الأدوية المصنعة في شركات الأدوية".

ويضيف "لا يعني ذلك أننا منقطعون عن المختبرات العالمية. بالعكس فنحن على تواصل مع عديد من هذه المختبرات سواء في البلدان العربية أو في أوروبا التي تعنى بالأدوية المصنعة من الأعشاب، وبتنا معروفين في هذه البلدان من حيث ما ننتجه، ونقوم بتوريد منتجاتنا لهذه الدول كبديل لما نعانيه من تردي الوضع الاقتصادي، والركود الذي تشهده أسواق القدس".

يفتخر اسحق بمهنة أجداده المتوارثة منذ قرون، ويفخر أكثر بوجوده وصموده في القدس وفي أسواقها، حيث لهذا الوجود مغزى ومعنى، رغم ما يعانيه سكان بلدتها القديمة، خاصة التجار من أوضاع اقتصادية صعبة بسبب الركود التجاري، وحملات الدهم الضريبي التي لا تتوقف.

العطار طبيب وصيدلي

من جانبه، تطرق المواطن محمد جبر، من أصحاب محال بيع الملابس في ذات السوق، في حديثه لـ"العربي الجديد" عن سوق العطارين، إلى ما كان يقوم به العطار المقدسي من دور يتجاوز حدود مهنته إلى مهن أخرى. فالعطار كان طبيباً وصيدلانياً في آن، يتوجه إليه المريض

طلباً للعلاج والدواء، تماماً كما كان عليه الحال بالنسبة للحلاق، أو ما كان يعرف بـ "المزيّن"، فهو يمارس إلى جانب مهنته الأصلية مهنة طبيب أسنان أيضا يخلع الأسنان والأنياب، ويستعين بالعطار في أدوية معالجة أمراض اللثة والتهابات الفم. اليوم، كما يقول جبر، تبدل الحال كثيراً، ظل سوق العطارين يحتفظ باسمه الذي اشتق من مهنة العطارة التي اشتهر بها، واليوم لم يتبق سوى عدد محدود من هذه المحلات يعود الفضل في بقائها إلى عائلتي الموقت وجمجوم.

ويشتهر بعض العطارين بألقاب وكنى معينة، فهناك شيخ العطارين وكبير العطارين وعطار اليمن مثلاً وغيرها من المسميات التي تعتمد على خبرة وممارسة وعمر العطار في ممارسة المهنة وبعضهم يرث هذا اللقب عن أبيه أو جده مثلاً.

عادت العطارة إلى السطح وبقوة أخيراً، فبعد أن كادت تنقرض صار الناس أكثر إقبالاً على محلات العطارة من ذي قبل، خصوصاً أن الطب الحديث عجز عن علاج الكثير من الأمراض وأصبح يطلق عليها لفظ "مستعصية"، بل إن كثيرا من الناس صار يهرب من الأدوية الكيميائية ذات المضاعفات والآثار الجانبية، ويبحث في العطارة عن العلاج الطبيعي والآمن كما كان يفعل الأجداد قديماً إذا ما أصاب أحدهم مرض أو علة ما.


اقرأ أيضاً: 10.8 مليون دولار خسائر الاحتلال من حجارة المقدسيين

المساهمون