وسط التغيّر الجيوسياسي الذي يجتاح العالم منذ صعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الحكم وتجذير الصراع حول بناء "نظام عالمي جديد"، بهدف إعادة الهيمنة الأميركية الكاملة على موارد العالم وتسويقها، ينشط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإحياء أمجاد روسيا التي فقدتها بعد سقوط الإمبراطورية السوفييتية.
وتسعى روسيا، التي تعاني من الحظر الاقتصادي الأميركي، إلى فتح أسواق جديدة، من بينها أسواق أفريقيا. وحسب مراقبين "تقوم استراتيجية بوتين على التحالف مع الصين في انتزاع مناطق العالم الغنية بالطاقة والموارد الطبيعية من أميركا وحلفائها".
وحسب دراسة بريطانية، يركّز الرئيس الروسي على استراتيجية الطاقة كمدخل رئيسي لتدعيم النفوذ الروسي في العديد من دول العالم، في المنطقة العربية وأفريقيا وآسيا الوسطى.
وتزايد النشاط الروسي في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، مدعوماً بالتمدد الذي حققته الصين في القارة السمراء على حساب أوروبا وأميركا. وما قوّى هذا النشاط النجاح الذي حققه بوتين في سورية التي انتزعها من القوى الغربية، ليصبح بذلك لاعباً رئيسياً في منطقة غنية بالنفط، متحالفاً مع كل من إيران وممسكاً بخيوط لعبة الطاقة في كل من السعودية والعراق ومصر.
كما أنه يتوسع في إمدادات الطاقة التركية عبر مشروع "تركيش ستريم" أو السيل التركي. ويدعم بوتين في تنفيذ استراتيجية الطاقة، وجود السوق الصيني المتنامي في استهلاك النفط والغاز والمواد الأولية.
ولم تكن أفريقيا بعيدة عن استراتيجية بوتين، إذ إنه خطط في السنوات الأخيرة لوضع استثمارات استراتيجية في مشروعات الطاقة والتعدين، وبناء المفاعلات الذرية لتوليد الكهرباء في العديد من الدول.
يضاف إلى ذلك النشاط الروسي في بيع صفقات الأسلحة وما يتبعها من قوة ناعمة في مجال التدريب والتأهيل والمنح الدراسية للطلاب الأفارقة في الجامعات الروسية.
وهذه المشروعات التي ينشط فيها الدب الروسي، تعد مشروعات حيوية للسوق الأفريقي المتنامي المكتظّ بالشباب الباحثين عن الوظائف والفرص التدريبية.
وحسب استراتيجية بوتين، فإن البحث عن أسواق جديدة للتقنية الروسية بعد فقدان موسكو لأوروبا الشرقية، يعدّ من رأس أهدافه في أفريقيا التي تحتاج إلى تقنيات رخيصة تُناسب الدخول المتدنية.
فعلى صعيد الكهرباء مثلاً، هنالك نحو 620 مليون شخص في أفريقيا لا يجدون الطاقة. كما أن أفريقيا تحتوي على مليار مستهلك، معظمهم من الشباب، الذين تتزايد احتياجاتهم وقدرتهم الشرائية مع تقدّم القارة الاقتصادي.
وحسب مصادر روسية فإن هذا الكم الهائل من المستهلكين سيساهم في توسيع الصادرات الروسية، وبالتالي توسيع حجم الاقتصاد الروسي.
وحسب تقرير روسي، تحتوي أفريقيا على 30% من الموارد الطبيعية و%60 من المياه العذبة والمعادن في العالم. وهذا الحجم من الموارد يتناسب مع استراتيجية بوتين الرامية لاحتكار الطاقة والمعادن.
ويستخدم بوتين في تنفيذ هذه الاستراتيجية شركات الطاقة والتعدين الروسية ومبيعات الأسلحة وتنشط العديد من شركات الطاقة الروسية في الجزائر وأنغولا ومصر ونيجيريا.
أما شركات التعدين فتنشط في زيمبابوي وأنغولا والكونغو وأفريقيا الوسطى. ففي زيمبابوي، مثلاً، تقوم الشركات الروسية بالتعدين في أكبر منجم للبلاتينيوم في العالم. وفي أنغولا تقوم شركة ألروسا بتعدين الماس. وفي ناميبيا، تستخرج الشركات الروسية اليورانيوم.
وفي ليبيا، وحسب دبلوماسيين غربيين على علم باستراتيجية بوتين، فإن روسيا ترغب في استعادة الهيمنة على النفط الليبي، وتسويق معدّاتها العسكرية واحتكار عقود إعادة بناء ليبيا التي دمرتها الحرب، والتي تقدّر بمئات المليارات.
كما تخطط لإنشاء قاعدة بحرية في سواحل ليبيا على البحر المتوسط. ومدت روسيا الجسور مع أطراف المعارضة الليبية، إذ زار كل من الجنرال خليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي موسكو عدة مرات،.
ووقعت شركات النفط والغاز الروسية عقوداً مع شركة النفط الوطنية الليبية، لدى زيارة رئيسها مصطفى صنع الله إلى موسكو في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وتسعى روسيا لإنشاء خط سريع يربط بين طرابلس وسرت، بعقد قيمته 2.5 مليار دولار. كما أن ليبيا تعدّ من أهم زبائن القمح الروسي، إذ تستورد منها نحو مليون طن سنوياً، قيمتها 700 مليون دولار.
وعلى الرغم من أن روسيا ليست قوة اقتصادية كبيرة مثل حليفتها الصين، إلا أنها قوة سياسية وعسكرية ذات نفوذ عالمي وتأثير في مجلس الأمن الدولي، إذ إنها من بين الدول الخمس التي تملك حق النقض "فيتو". وهذا النفوذ العسكري والسياسي الروسي مهم بالنسبة للزعماء الأفارقة الذين يبحثون عن السند والحماية في عالم مضطرب.
كما أن التسريبات عن نوايا أميركا إجراء تعديلات في الخارطة العالمية الجيوسياسية والجغرافية معاً يُقلق الدول الأفريقية. ويقدّر الاقتصاد الروسي بنحو 1.4 ترليون دولار مقارنة بالاقتصاد الصيني المقدر بأكثر من 11 ترليون دولار والاقتصاد الأميركي المقدر بأكثر من 19 ترليون دولار.
ولكن روسيا رغم هذه الروابط الناشئة مع العديد من الحكومات الأفريقية والمليشيات المسلحة، لا تزال بعيدة عن إحداث تقدّم كبير في أفريقيا مثل الذي أحدثته الصين، إذ يقدّر حجم التجارة بين أفريقيا وروسيا بنسبة لا تزيد عن 2.0% من إجمالي حجم التجارة الروسية.
ويقدّر بنك التنمية الأفريقي حجم استثمار الشركات الروسية في أفريقيا بنحو 20 مليار دولار، منذ عام 2013. ولكن من الصعب حساب استثمارات الشركات الروسية في أفريقيا، لأن العديد منها مسجلة في دول أخرى ومناطق أوفشور.
وعلى صعيد القوة الناعمة تعمل روسيا على رفع حجم معوناتها إلى أفريقيا إلى نسبة 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 12 مليار دولار سنوياً، وعدا إعفاءات ديون الاتحاد السوفييتي السابقة البالغة 20 مليار دولار، فإن المعونات التي تقدمها حالياً متواضعة ولا تتعدى 10 ملايين دولار.