دخلت الهدنة المؤقتة في قطاع غزة يومها الثالث دون أن تقوم السلطة الفلسطينية حتى اللحظة باستغلالها كهدنة قد لا تمتد أكثر من أربعة أيام؛ في محاولة صرف رواتب أو نسبة من رواتب موظفيها في قطاع غزة، لتعزيز صمودهم في ظل العدوان الذي طاول كل شيء في غزة.
شهر نوفمبر/ تشرين الثاني شارف على الانتهاء ولم تصرف السلطة الفلسطينية رواتب موظفيها في الضفة وغزة، بعد قرار إسرائيلي باقتطاع ما يعادل الأموال المخصصة لقطاع غزة من أموال المقاصة (أموال الضرائب الفلسطينية التي يجبيها الاحتلال)، وصدور قرار فلسطيني برفض استلام الأموال منقوصة، وهي قرابة 270 مليون شيكل (72 مليون دولار).
ورغم تأكيد خبراء اقتصاد من خلال قراءة الأرقام المجردة للأوضاع المالية ومصادر التمويل المتوفرة، أن ما لدى الخزينة لا يكفي للمصاريف التشغيلية، إلا أن آخرين لا يرون بصرف رواتب موظفي غزة عائقا ماليا.
إخفاق السلطة
يقول الباحث المؤسس في مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية فراس جابر لـ"العربي الجديد"، إنه يرى إخفاقا للحكومة من زاوية الاستجابة، وإمكانية تشكيل حكومة طوارئ، أو لجان طوارئ على الأقل للتعامل مع العدوان على القطاع، حيث كان يمكن تحويل الوزارات والحكومة لخلايا طوارئ تعمل على إغاثة الفلسطينيين في غزة.
يقول جابر بشكل واضح: "كان يجب أن يتم في هذا الظرف تسديد رواتب موظفي قطاع غزة بشكل كامل، بدون أية خصومات، في ظل حرب تعمل على تجريف كل البنى في قطاع غزة، وكان يجب تشكيل برامج إغاثية لتسديد مبالغ مالية بسيطة تعين العائلات في غزة في فترة الحرب".
ولا يرى جابر أن الإخفاق هو نتيجة لعدم وجود ميزانيات وإن كانت المقاصة كمصدر رئيسي قد توقفت، لكنه يعيد الأمر لعدم وجود رغبة سياسية ولتعامل الحكومة كأنها طرف محايد حسب تعبيره، حيث لم يتم على الأقل الإعلان عن صندوق إغاثة يجمع التبرعات كما قال.
ولم تعلن السلطة الفلسطينية قرارا مشابها لما اتخذته في عام 2019 بعد اقتطاع الاحتلال ما يعادل الأموال المخصصة لرواتب الأسرى وعوائل الشهداء، بصرف تلك الرواتب.
صعوبات التحويلات المصرفية
يشير الخبير الاقتصادي محمد عبد الله إلى أن ذلك ممكن في حال اقترضت الحكومة من البنوك، فالوضع المالي للحكومة يعاني ليس فقط من فقدان المقاصة، بل حتى من تراجع في الإيرادات المحلية.
لكن علامة الاستفهام تبقى كما يقول عبد الله حول الإمكانية الفنية لتحويل الرواتب، في ظل توقف القطاع المصرفي في غزة، ومؤشرات على امتلاك إسرائيل مفاتيح التحويلات الدولية إلى غزة، مشيرا إلى أن الإجابة عن سؤال التحويلات تملكه سلطة النقد.
كما يقول أستاذ الاقتصاد نصر عبد الكريم لـ"العربي الجديد" إن الاحتلال يقتطع في كل شهر من المقاصة بشكل مباشر نفقات السلطة لقطاع غزة من كهرباء وماء وصرف صحي وبدل علاج لمن يتم تحويلهم إلى المستشفيات الإسرائيلية، ويبقى فقط ما يتم تحويله من السلطة رواتب الموظفين، التي لا يمكن اعتبارها عائقا ماليا.
لكنه قال كذلك: "إلا في حالة وجود عائق مصرفي"، مشيرا إلى تجربة سابقة في العام 2021 حيث توقفت البنوك عن استلام رواتب عوائل الشهداء والأسرى عبر البنوك لخشيتها من قرارات إسرائيلية ضدها بحظر التعامل معها، مما اضطر السلطة الفلسطينية لصرفها لاحقا عبر فروع البريد الفلسطيني.
ذهب "العربي الجديد" بهذا السؤال إلى سلطة النقد والتي أجابت، بأنه لم يطرأ أي تغيير على الأنظمة المتبعة للتحويلات، لكنها أشارت إلى أن أغلب فروع البنوك، توجد في شمال قطاع غزة، وهي مغلقة بالكامل، إضافة إلى أن فروع جنوب القطاع شبه مغلقة، بالإضافة إلى توقف الصرافات الآلية باستثناء عدد قليل يعمل بالطاقة الشمسية جنوب القطاع.
وحول الرواتب قال رد سلطة النقد: "إننا في سلطة النقد على تواصل دائم مع الحكومة الفلسطينية، لمتابعة كل ما هو جديد فيما يخص هذا الأمر الهام، ونأمل أن تتمكن الحكومة من توفير التمويل، مع العلم أن استمرار انقطاع الكهرباء سيؤدي إلى بقاء الجهاز المصرفي مغلقا بشكل شبه تام".
أموال المقاصة
وبحسب الأرقام المعلنة في تقارير وزارة المالية شكلت أموال المقاصة منذ بداية العام الحالي وحتى نهاية شهر سبتمبر/ أيلول الماضي قرابة 62% من مجمل الإيرادات، لكنها ليست المصدر الوحيد، فالإيرادات المحلية قاربت 32%، فلماذا لم تستطع السلطة بصرف جزء من الرواتب؟
تجيب الأرقام الخاصة بالإيرادات المحلية التي تراجعت شهر تشرين أول أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لقرابة 60% وفقا للخبير الاقتصادي محمد عبد الله، لكن في المقابل، يشكل غياب الإرادة للبحث عن بدائل إجابة أخرى بحسب أستاذ الاقتصاد نصر عبد الكريم.
وفقا لمراجعة "العربي الجديد" للتقارير الشهرية المعلنة من وزارة المالية، فقد جبت الحكومة في سبتمبر الماضي 484 مليون شيكل (130 مليون دولار) كإيرادات محلية.
ووصلت أموال المقاصة إلى 970 مليون شيكل (260 مليون دولار)، وفي المقابل بلغ في الشهر ذاته مجموع فاتورة الرواتب والأجور 608 ملايين شيكل (162 مليون دولار)، والنفقات التشغيلية (التحويلية) 226 مليون شيكل (60 مليون دولار) يضاف إليها بنود نفقات عديدة أخرى.
وقد رفض مدير عام الرواتب في وزارة المالية عبد الجبار سالم الإدلاء بتصريحات صحافية لـ"العربي الجديد"، لكن المعلومات المتوفرة للخبير الاقتصادي محمد عبد الله تشير إلى تراجع في الإيرادات المحلية بنسبة 60% تقريبا عن شهر سبتمبر، أي أنها لم تصل لأكثر من 200 مليون شيكل (53 مليون دولار)، وهو ما يعني أنها لا تغطي كامل النفقات التشغيلية.
يقول عبد الله إن ذلك يعود إلى المخاوف في الأسواق في الضفة الغربية منذ السابع منذ بدء الحرب، حيث تراجع الاستهلاك، وتأجيل الشركات مدفوعاتها الضريبية.
بحسب عبد الله فإن التجارب السابقة تشير إلى أن الحكومة الفلسطينية لا تملك خيارات غير تقليدية لتوفير السيولة، وأمامها خياران، هما الاقتراض من القطاع المصرفي الفلسطيني، والذي يعتبر صعبا، ولن يكون متاحا لأكثر من ثلاثة أشهر على الأكثر، والثاني؛ المنح الخارجية، وقد فشلت الحكومة بعد أزمة المقاصة السابقة عام 2019، وأزمة فيروس كورونا في الحصول عليها.