وقفة مع قرار تعويم الجنيه المصري

15 ديسمبر 2020
قيمة العملة المصرية تراجعت من 7 إلى 19 جنيهاً مقابل الدولار منذ التعويم
+ الخط -

قبل أكثر من أربع سنوات، وتحديدا في الثالث من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 اتخذ البنك المركزي المصري قرارا بتحرير سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية، وهو ما عُرف بقرار تعويم الجنيه، وعلى إثره فقد الجنيه المصري أكثر من نصف قيمته في اليوم التالي من القرار مباشرة، وانخفضت قيمته إلى 19 جنيهاً مقابل الدولار الواحد، مقارنة بأقل من 9 جنيهات للدولار قبل القرار، ولم يكن قد تجاوز حاجز الـ7 جنيهات قبل يوليو/ تموز 2013، وبذلك سلب القرار من المصريين أكثر من نصف قيمة مدخراتهم وسلب النصف الآخر بتضاعف أسعار السلع.

اعتبر الجنرال عبد الفتاح السيسي أن القرار كان ضرورة لإصلاح الاقتصاد المصري وزيادة الصادرات، وقال بطريقته الخاصة بعد ستة أشهر من القرار: "تعويم الجنيه كانت له ميزات عظيمة جدا جدا رغم قسوته علينا.. إنه أتاح لنا الفرصة أن نصدر بشكل كبير جدا جدا منتجات وصناعات أخرى".

واعتبر السيسي أن القرار الذي اتخذه هو الحل العبقري لإعادة بناء مصر وحل مشاكلها الاقتصادية، وقد عبر عن ذلك بطريقته الحصرية أيضا فقال "يا نبني بلدنا مظبوط ونحل مشاكلنا مظبوط يانسيبها ونمشي". وسؤالي هنا وبعد أربع سنوات من قرار التعويم، هل حقق السيسي أهدافه وبنى الاقتصاد وحل مشاكله وزادت الصادرات؟

التعويم والصادرات

في الظروف الطبيعية، يؤدي انخفاض قيمة العملة إلى زيادة الصادرات مدعومة بانخفاض تكلفة المواد الخام التي تؤدي إلى انخفاض سعر المنتجات المحلية أمام المنافسة لها في الأسواق الدولية. ولكن عندما تستورد الدولة معظم المواد الخام من الخارج، كما هو الواقع في مصر، فإن تخفيض قيمة العملة سيكون له أثر عكسي على تكلفة المنتجات وارتفاع أسعارها في السوق الدولية، وبالتالي ينخفض الطلب عليها وتتراجع قيمة الصادرات.

قد يقول قائل إن قيمة الصادرات ارتفعت بالفعل بعد التعويم من 19.6 مليار دولار في 2016، أي قبل التعويم، إلى 22.5 مليار دولار في 2017، وبالتالي أدى قرار التعويم إلى زيادة قيمة الصادرات بنسبة 15%، وهذا صحيح!

لكن من قال إن زيادة قيمة الصادرات تحتاج إلى خفض قيمة العملة؟! لقد بلغت قيمة الصادرات 23.3 مليار دولار في 2011، وهي السنة التي شهدت ثورة 25 يناير المباركة والتي قال عنها السيسي إن "مصر عرت كتفها وكشفت ظهرها في هذا العام". وبلغت قيمة الصادرات 22.8 مليار دولار في 2012، رغم أن قيمة الدولار لم تتجاوز 7 جنيهات! والصادرات التركية كانت تزيد إلى أرقام فلكية وفي نفس الوقت تزيد قيمة الليرة مدعومة بالاستقرار السياسي والاقتصادي.

لقد أصبح من السهل أن ندرك بعد أربع سنوات أن قرار تعويم الجنيه تسبب في إضعاف الاقتصاد المصري وانتكاس قيمة الصادرات حتى وصلت في 2015 إلى 18 مليار دولار، من واقع بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي.

صناعة الأثاث

المضحك المبكي أن السيسي ضرب مثالاً على فوائد تعويم الجنيه وهو يفتتح مدينة دمياط الجديدة للأثاث في مايو/أيار 2017 وقال إنه سيزيد من فرص تصدير الأثاث. لكن الذي حدث أن قرار التعويم كان سبباً في تدمير صناعة الأثاث وتراجع فرص التصدير، ذلك أن خفض قيمة الجنيه أدى إلى ارتفاع تكلفة الأخشاب اللازمة للصناعة بنسبة 100%، وهي التي تستورد جميعها من الخارج بالدولار الذي زاد سعره، ما رفع تكلفة الإنتاج بنسبة 50%، وقضى على الميزة التنافسية للأثاث الدمياطي خارجيا وتراجعت القدرة التصديرية أمام الدول الأخرى لرخص أسعار منتجاتها، وتسبب القرار أيضا بتراجع الإنتاج بنسبة 50%.

وبعد سنة من التعويم تراجعت صادرات الأثاث من 296 مليون دولار في 2016، إلى 270 مليون دولار في 2017، وأغلقت الورش في معاقل الصناعة في محافظة دمياط ومدينة كتامة بمحافظة الغربية، بل تحول المصريون لشراء الأثاث الصيني والتركي لرخص سعره عن المحلي. وقدم أعضاء غرفة صناعة الأخشاب شكوى لمجلس الوزراء لحل أزمة الصناعة بسبب كارثة التعويم وتهديد 60 ألف ورشة ومصنع للتوقف وفقدان 300 ألف من العاملين المتخصصين فيها مصدر رزقهم.

وبسبب تراجع صادرات الأثاث قدم المجلس التصديري للأثاث استغاثة للجنرال السيسي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فكان الرد هو إلغاء معرض "لومارشيه" للأثاث قبل أسبوع من موعده، وهو الذي يعد أكبر معرض أثاث في الشرق الأوسط والفرصة الوحيدة للصناع والعارضين لتسويق وتصدير منتجاتهم، والسبب هو اعتراض الجهات الأمنية على تنظيمه، لأن المعرض يزوره أكثر من 100 ألف زائر مصري وأجنبي! ما يعد دليلا آخر على أن زيادة الصادرات لا علاقة لها بتخفيض قيمة الجنيه.

قطاع الأثاث هو نموذج مصغر لتأثير قرار التعويم على الاقتصاد المصري، وإذا استعرضنا تداعيات القرار على قطاع المقاولات فإن الكارثة التي حلت بكل بيت تقريبا في مصر لا يمكن الوقوف على أبعادها. فالقطاع يعمل فيه أكثر من 30 ألف شركة ويرتبط مع 90 مهنة ويعمل فيه نحو 25 مليون مصري جلس معظمهم في بيوتهم بسبب القرار.

القطاع يرفد الخزانة العامة بـ40% من الضرائب، ولكن بعد القرار أفلست أكثر من 2500 شركة تعمل في المقاولات وألغت سجلها التجاري وخرجت من اتحاد المقاولين خلال ثلاثة أشهر فقط، وحجزت الجهات الإدارية ممتلكاتها وأصولها، لعدم قدرتها على الالتزام بالعقود بسبب زيادة أسعار مواد البناء من حديد وأسمنت وطوب وخلافه بنسبة 80%. فهل كان النظام يجهل تداعيات القرار على هذا القطاع الحيوي وغيره من القطاعات الأخرى؟!

قوت الغلابة

مثال آخر على تأثير قرار تعويم الجنيه على كلفة المعيشة للمصريين البسطاء. فقد أدى القرار إلى تدمير صناعة الدواجن المحلية والتي توفر بروتين الفقراء كما يسميها المصريون. قبل القرار كانت مصر تكتفي ذاتيا من لحوم الدواجن بنسبة 95%، وبنسبة 100% من بيض المائدة، ويعمل في هذه الصناعة أكثر من 2.5 مليون عامل يعولون أكثر من 8 ملايين مصري.

ولا يخفى على الحكومة أن أعلاف الدواجن تشكل 60% من تكلفة الإنتاج، وأن مصر تستورد كل مكونات أعلاف الدواجن بالدولار من الخارج، خاصة الذرة الصفراء التي نستورد منها قرابة 9 ملايين طن بقيمة ملياري دولار، وفول الصويا ونستورد منها 4 ملايين طن بنفس القيمة تقريبا.

وكان معلوما مسبقا أن خفض قيمة الجنيه سوف يسبب مشاكل لصناعة الدواجن والمستهلك أيضا. وعقب قرار التعويم وصعود سعر الدولار تضاعفت تكلفة الإنتاج وارتفع سعر طن العلف إلى 8 آلاف جنيه، مقابل 5 آلاف جنيه قبل التعويم، وبالتالي زاد سعر لحوم الدواجن إلى 30 جنيها للكيلو مقابل 15 جنيها للكيلو قبل قرار التعويم.

غلاء أسعار الأعلاف أجبر معظم مربي الدواجن للتوقف عن الإنتاج وجلس تجار الدجاج في بيوتهم، وأصبحت لحوم الدواجن بعيدة عن أيدي كثير من الأسر المصرية بعد أن كانت البديل للحوم غالية الثمن، ولجأ كثير من الأسر إلى شراء عظام الدواجن والتي يطلقون عليها اسم الهياكل ليطعموا أبناءهم شيئا من رائحة الدواجن!

ألم يكن يعلم السيسي أن تعويم الجنيه سوف يزيد من معاناة الغلابة ويرفع كلفة معيشتهم لأن مصر تستورد 65% من السلع الأساسية من الخارج؟!

ألم يكن يعلم أن 80% من الفول يأتي من الخارج بالدولار، وهو الغذاء الرئيسي لجموع المصرين، وأن 95% من زيت الطعام يتم استيراده أيضا بالدولار، وأن 70% من اللحوم يتم استيرادها بالدولار؟!

لقد أدى قرار التعويم إلى زيادة ثمن سندوتش الفول من 75 قرشا إلى 3 جنيهات، وزاد سعر كيلو اللحم السوداني من 35 جنيها إلى 75 جنيها!

قيمة الأصول

لا ينتبه أحد إلى أن تعويم الجنيه كان له تأثير خطير على الأمن القومي المصري من خلال مسؤوليته المباشرة في تخفيض قيمة الأصول المصرية من أراض وعقارات وشركات وموانئ أمام المستثمرين الأجانب، ما أغراهم بالتوسع في شرائها. وهو ما حدث بالفعل حيث نشطت الإمارات بعد سنة 2016 في شراء مستشفيات ومعامل تحاليل طبية منتشرة في جميع محافظات مصر بأسعار زهيدة، وأصبحت المحتكر الأجنبي الأول في هذا القطاع، ما يشكل خطورة مباشرة على الأمن القومي.

وفي 2017 وافق السيسي على إنشاء شركة تنمية مشتركة بين هيئة قناة السويس ومجموعة موانئ دبي العالمية لتنفيذ مشروعات في منطقة قناة السويس الاقتصادية.

وفي هذا العام استحوذت الشركة على 69% من إجمالي صادرات الذهب والأحجار الكريمة. ويجري العمل على تمكين الإمارات من قطاع الغزل والنسيج وآبار الغاز والفنادق باستحواذات تصل إلى 5 مليارات دولار في سنة 2021. وكذلك يتم تهجير السكان من أماكن حيوية في منطقة ماسبيرو ونزلة السمان بجوار منطقة الأهرامات لصالحها أيضا.

ثورة شعبية

لا شك في أن التداعيات المتوقعة لقرار التعويم كانت إشعال ثورة شعبية بسبب خطورته على تكلفة المعيشة وتآكل المدخرات، وبسبب توقيته الخاطئ حيث يعاني الناس من الغلاء وانخفاض دخولهم وزيادة معدلات الفقر.

وقد اعترف السيسي بعد ثلاث سنوات من القرار بأنه اتخذ القرار في ظروف "استثنائية" صعبة ومحاطة بالتحديات الاقتصادية والأمنية والثقافية والدينية والاجتماعية على حد قوله. واعترف بأنه توقع ردة الفعل الشعبية وبأنه أعد البديل للالتفاف على غضبة الجماهير لو رفضت القرار كما فعل الرئيس السادات مع ثورة يناير 1977.

فقال إنه "في نوفمبر 2016، وقت اتخاذ قرار تحرير سعر صرف الجنيه، الجميع في الحكومة كانوا متحسبين جدا من رد الفعل، والكل في التصويت كان خايف.. لو حصل لا قدر الله البلد تنهار وتدمر.. وأنا هنا مش بزكي نفسي في النقطة دية، وأنا قلت لهم لأ.. قلت الحكومة تجهز.. لو الشعب رفض، يعني قرار التعويم، تقدم الحكومة استقالتها الخميس.. ولو الشعب رفض، يعني استقالة الحكومة،.. يوم السبت هعمل انتخابات رئاسية مبكرة".

والحقيقة أنه لولا القبضة الأمنية التي تحكم الدولة والتصفية الجسدية للخصوم والمعارضين السياسيين ما مر قرار تعويم الجنيه من دون ثورة شعبية كما توقع السيسي نفسه.

المساهمون