هي أشياء لا تشترى

18 أكتوبر 2023
العدوان الإسرائيلي على غزة يتسبب في كارثة إنسانية (أحمد حسب الله/ Getty)
+ الخط -

قال العرب "قديماً" تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، وكانوا يقصدون أن المرأة الفاضلة لا ترتضي رخاء العيش والثروة من وراء تسخير جسمها، سواء بالحلال أو الحرام.

وقبل ما يقرب من قرن، كانت هناك بعض الأعمال الأدبية الكلاسيكية التي حاولت استكشاف فكرة الأشياء التي لا يمكن بيعها، ومنها رواية "عالم جديد شجاع".

نُشرت هذه الرواية، وكانت من نوع الخيال العلمي، في عام 1932، وقدمت عالماً يستعرض مجتمعاً في المستقبل، تكاد كل الأمور فيه تكون سلعاً للبيع، ولكن كانت هناك دائماً عواقب وخيمة تنشأ عن مثل هذه التعاملات.

في رواية "عالم جديد شجاع" تم تأهيل الأفراد منذ ولادتهم بصورة معينة، تساعد على التحكم باندفاعاتهم وأنماط استهلاكهم بعناية.

كان الأفراد يُشجعون على تقدير الممتلكات المادية، وتلبية رغباتهم بصورة فورية، وكان المجتمع يتسم بالثقافة الاستهلاكية، حيث يُشجع الناس على البحث عن المتعة، وتجنب كل ما يعكر عليهم صفو حياتهم.

كانت الرواية بين الفينة والأخرى تطرح سؤالاً حول ما لا يمكن شراؤه أو بيعه، بينما كان مجتمع الرواية يعامل المشاعر الإنسانية، والشخصية الفردية، كما بحث الإنسان عن معنى أعمق، باعتبارها أموراً غير محببة، وغير مرغوب فيها، بل ومزعجة.

في عالم الرواية، جرت التضحية بالعلاقات الإنسانية الحقيقية، والحرية الشخصية، وسعي الفرد نحو المعرفة، من أجل الحفاظ على الاستقرار، وتحقيق بعض الأهداف المادية.

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

باختصار، حذرت رواية "عالم جديد شجاع" من تأثيرات التفكير الاستهلاكي المادي غير المحدود، والتعامل مع التجارب البشرية باعتبارها مجموعة من الصفقات أو العمليات التجارية، وحاولت تشجيع القراء على البحث عن القيم والخصائص غير الملموسة، التي لا تقدر بثمن، والتي تجعل الحياة ذات معنى وتستحق العيش، حتى في عالم يؤكد على بيع واستهلاك كل شيء.

وفي التسعينيات من القرن الماضي، أنتجت هوليوود فيلماً، اشتهر وقتها وحقق نجاحات كبيرة، وكان اسمه "عرض غير محترم".

دارت قصة الفيلم حول الزوجين ديانا وديفيد، اللذين وجدا نفسيهما في مشكلات مالية بسبب صعوبات واجهت ديفيد في عمله بمجال العقارات، تكبد فيها خسائر ضخمة، تعثرت معها قدرتهما على دفع أقساط منزلهما، واقتربا من فقدانه.

وخلال رحلة إلى لاس فيغاس، التقى الزوجان بجون جيج، رجل الأعمال الملياردير. وفي إحدى الليالي، قرر الزوجان أن يجربا حظهما في الرهانات على مائدة الروليت. وبعد الصعوبات الأولية، تمكنا من الفوز بمبلغ مالي كبير، خفف قليلاً من مشكلاتهما المادية.

وأثناء وجودهما في لاس فيغاس، يتواصل جون جيج، رجل الأعمال الثري، مع ديانا وديفيد، فيشعر بجاذبية قوية نحو ديانا، يقدم على أثرها "عرضاً غير محترم"، يعرض فيه دفع مبلغ مليون دولار للزوجين مقابل ليلة واحدة يقضيها مع الزوجة. وأكد جون أن الصفقة، التي جاء توقيتها قبل نهاية "القرن" بسنوات قليلة ستكون سرية، ولن تتم إلا بموافقة تامة من الطرفين، ثم منحهما بعض الوقت للتفكير.

يترك هذا الاقتراح الزوجين في حالة من الصدمة والتردد، رغم الرفض الفوري الذي أبدياه عند سماع العرض. لكن عند عودتهما للمنزل، تلعب الفكرة والشيطان بدماغهما، ليواجها المعضلة الأخلاقية التي فرضها عليهما اقتراح جون جيج غير المحترم، والذي كانت فكرته الأساسية، التي يحاول إثباتها لهما، هي أن كل شيء له ثمن، وبالتالي فهو متاح للبيع والشراء.

في البداية، كان ديفيد متردداً في النظر في العرض، لكن ديانا بدت أكثر اهتماماً بالفكرة، معتقدة أن المال يمكن أن يحل مشكلاتهما المالية. وفي النهاية، وافق الزوجان على عرض جون جيج، معتقدين أنه الحل السريع لأزمتهما المالية. قضت ديانا ليلة مع جون جيج، بينما كان ديفيد ينتظرها على نار. وتظهر أحداث الفيلم التالية أن هذه التجربة أثرت بشكل سلبي على الزوجين، وعلى علاقتهما.

عانى الزوجان بعد تنفيذ الصفقة شعوراً بالذنب والغيرة والانهزام، وتوترت علاقتهما العاطفية والزوجية، وأدركا أن الأمر لم يكن هيناً كما تصوّرا، وأصبح يتعين عليهما مواجهة عواقب موافقتهما على القرار.

ناقش الفيلم مواضيع غير تقليدية بصورة كانت مفاجئة للمشاهدين وقتها، حيث تطرق إلى تفاصيل العلاقة بين الزوجين، كما العديد من المفاهيم والقيم الأخرى، ومنها بالتأكيد المال وما يمكن أو لا يمكن أن يشتريه، والأخلاق وما يمكن أو لا يمكن أن يباع منها. وانتهى الفيلم، على ما أتذكر، بانهيار العلاقة وانفصال الزوجين.

تذكرت هذه الأمور، وأنا أنظر حولي فلا أجد إلا مشاهد القتل والدمار في غزة، ولا أسمع إلا تحذيرات لأهلها بضرورة مغادرتها والتوجه نحو الجنوب، حتى لا يكونوا عرضة للقصف الإسرائيلي الوحشي، الذي لا يميز بين مقاتل ومدني، ولا يمنع قذائفه عن طفل أو امرأة أو رجل عجوز، بعد معجزة السابع من أكتوبر، التي كسرت أنف الاحتلال وحطمت كبرياءه.

لم تكن الرواية بعيدة عنا، ولا أتى الفيلم بغريب عن عالمنا المهزوم أمام الظلم والفساد والماديات وهزيمة ديفيد وديانا أمام الخسائر والديون. يجلس الساسة في غرف مغلقة، يخططون، ثم يخرجون علينا لينفذوا ما اتفقوا عليه، دون أن يكلفوا أنفسهم حتى عناء شرح ما ينون فعله. فإذا علت الأصوات، بشّرونا بالخيرات التي ستعم، والدولارات التي ستنقذنا من الأزمة، ومشروعات التنمية التي سيقدمها لنا العالم.

وإذا سألت عن المقابل، قالوا لك إنه إنقاذ أهلنا واحتواؤهم على أرضنا، ووضع حد للدماء. يبيعون لنا الوهم، ويتشدقون به، وكأنهم حققوا أكبر الانتصارات، بينما هم يبيعون كل عزيز أو قيم في بلادنا، من الجزر إلى النيل، ومروراً بشركات وأراضٍ وامتيازات، لا يمكننا حصرها، ولا نعرف الأثمان التي بيعت بها، ولا أين يتم إنفاق أموالها.

يقول الشاعر الكبير أمل دنقل: لا تصالحْ! ولو منحوك الذهبْ. أترى حين أفقأ عينيكَ.. ثم أثبت جوهرتين مكانهما... هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى.

المساهمون