هل من "عصا سحرية" لإنقاذ اقتصاد بريطانيا مع اهتزاز ثقة الناخبين؟

28 يونيو 2024
شارع ريجنت المزدحم في يوم مشمس، لندن، 10 يونيو 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- التحذيرات تتصاعد حول الوضع الاقتصادي المتدهور في بريطانيا قبل الانتخابات العامة المبكرة، مع توقعات بأن تواجه الحكومة الحالية هزيمة غير مسبوقة بسبب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة نتيجة التقشف، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وجائحة كورونا.
- الاقتصاد البريطاني يعاني من مشكلات هيكلية عميقة، مع نمو ضعيف في الدخل الحقيقي وعدم المساواة المستمر، ولا تقدم الأحزاب المتنافسة خططاً واضحة لمعالجة هذه الأزمات، مما يجعل بريطانيا تواجه تحديات في زيادة الإنتاجية ورفع دخول المواطنين.
- الحكومة المقبلة أمام خيارات صعبة بين خفض النفقات، رفع الضرائب، أو الاستدانة الزائدة، مع تحذيرات من تأثيرات سلبية على الديمقراطية ومخاوف من صعود اليمين القومي والشعبوية إذا لم تتحقق تطلعات الجيل الناشئ اقتصاديًا.

كثيرة هي المؤشرات والتقارير التي تدق ناقوس الخطر بالنسبة لدقة أوضاع اقتصاد بريطانيا منذ سنوات، لكن ضجيج هذه التحذيرات تزايد في الآونة الأخيرة مع العد التنازلي للانتخابات العامة المبكرة في الرابع من يوليو/ تموز المقبل. انتخابات عجل "المحافظون" بها، على أمل أن تمنحهم تفويضاً جديداً، لكنها من المتوقع على نطاق واسع أن تتسبب لهم بهزيمة غير مسبوقة للحزب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

الشعار الرئيسي للانتخابات هو الاقتصاد وملفاته الكثيرة المعقدة. فمشكلات اقتصاد بريطاني باتت هاجساً يؤرق الجميع أغنياء وفقراء، وبمختلف الأجيال. فعلى مدى الأربعة عشر عاماً الماضية من حكم المحافظين، تعرّض اقتصاد بريطانيا لهزات كبيرة نالت من مستوى المعيشة والدخل بصورة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وجعلت بريطانيا "رجل أوروبا المريض"، بعدما كانت مهد الثورة الصناعية والرأسمالية.

وخلال الفترة الأولى من حكمهم اتبع "المحافظون" سياسات تقشفية قلصت من مستوى الخدمات العامة في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، (بهدف خفض عجز الموازنة بين عوائد الحكومة ونفقاتها)، وهي إجراءات لم يتعاف اقتصاد بريطانيا منها حتى الآن.

ثم جاء الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست" ليضع اقتصاد بريطانيا خلف حواجز مالية وجمركية عن بقية أوروبا، تحمس لها البريطانيون أولاً، ثم ندموا عليها في صمت يجعل "البريكست" يتوارى من الحملة الانتخابية تماماً، واكتمل المشهد السوداوي بجائحة "كورونا" وما ضخته المالية العامة من برامج وخطط، عن طريق الاستدانة، لضمان استمرارية العملية الاقتصادية، لكن خطط الإنقاذ تحولت إلى عبء كبير بعدما أصبح الدين يمثل 90% من إجمالي الناتج الاقتصادي، دون أن ينفصل كل ذلك عن هزات خارجية، مثل أزمة سلاسل الإمداد، بسبب الجائحة، ثم حرب أوكرانيا، ليتجسد كل ذلك في أزمة تكاليف معيشة خانقة طاولت جميع البريطانيين فقراء وأغنياء.

وتشير ورقة بحثية حديثة لمعهد السياسة المالية IFS، وهو مؤسسة بحثية مستقلة، إلى الوضع الراهن لفي اقتصاد بريطانيا بكثير من التشاؤم، فمعدل النمو في إجمالي الناتج الوطني لم يتجاوز 9% طوال الفترة من 2009 وحتى 2019، وعلى الرغم من أن معظم الاقتصادات العالمية تعرّضت لظروف مشابهة تقريباً لما حصل لبريطانيا، فإن وقع تلك الهزات على بريطانيا كان مدوياً، فبينما سجل نمو نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي في دول الاتحاد الأوروبي معدلاً بلغ 14%، فإن هذه النسبة في بريطانيا لم تزد عن ستة بالمئة، الأمر الذي يعزز صورة اقتصاد عاجز عن النمو، تتضاءل فيه الدخول الحقيقية، بمعدل غير مسبوق على مدى المائتي عام الماضية، حسب التقرير.

ويري مؤلف التقرير، توم ووترز، المدير المشارك في "IFS" أن "ضعف النمو في الدخل كان السمة الغالبة على حياة البريطانيين الاقتصادية على مدى الأعوام الخمسة عشر الماضية، لقد كان نمواً بطيئاً على الجميع، الأغنياء والفقراء، الشباب والمسنين، وهو ما أدى لاستمرار عدم المساواة وبطء السياسات الهادفة للحد من الفقر".

شعارات لإنقاذ اقتصاد بريطانيا دونها عقبات

لكن أزمات اقتصاد بريطانيا لا تبدو قاصرة على أرقام الدخل، فهل تمتد إلى منظومة التأمين الصحي الوطني الأشهر عالمياً، وأزمة إسكان لم تعرف البلاد لها مثيلاً منذ تسعين عاماً، وتراجع في قيمة العملة البريطانية "الباوند" بمعدلات غير مسبوقة، وحجم دين يثقل كاهل الموازنة العامة. هي صورة مركبة -يقول الخبراء- بما يوحي بأن إصلاحها قد يستغرق سنوات إن لم يكن عقوداً، فهل أعدت الأحزاب المتنافسة في الانتخابات البريطانية استراتيجية أو رؤية متكاملة لحل تلك المشكلات؟

يقول البروفيسور حافظ عبده، أستاذ الاقتصاد والضرائب في جامعة نوتنغهام: "في الواقع لا توجد أي عصا سحرية بيد أي من الأحزاب المتنافسة، فكل الأطروحات التي تقدمها البرامج الانتخابية عبارة عن شعارات لكسب تأييد الناخبين، والحلول المطروحة في معظمها زائفة، فعلى سبيل المثال يقترح حزب العمال تأسيس شركة وطنية للطاقة مملوكة للدولة، على أن يجري تمويلها من خلال الضريبة التصاعدية على أرباح شركات البترول والغاز، وهم يحتاجون 8.3 مليارات جنيه إسترليني لتمويل الخطة، لكني غير متأكد من أين سيحصلون على ذلك، في ظل التوجه العالمي لخفض الاعتماد على البترول والغاز".

يتفق بول جونسون مدير معهد "IFS" إلى حد كبير مع ما يقوله البروفيسور عبده، ويرى جونسون أن الأحزاب الثلاثة الكبار المحافظون والعمال والأحرار الديمقراطيون، شركاء في "مؤامرة الصمت" تجاه صعوبات اقتصاد بريطانيا التي سيواجهونها في اليوم التالي لانتخابات الرابع من يوليو/تموز. هذه التحديات في رأي جونسون معروفة سلفاً، لكن الحديث عنها يجري في شكل مبادئ عامة مثل: حفز النمو، سياسات أفضل، ترشيد الإنفاق. لكن هذه المبادئ لا تُترجم إلى خطوات وأرقام.

فعلى سبيل المثال يتعهّد "مانيفستو" حزب العمال بعدم زيادة ضريبة الدخل أو ضريبة القيمة المضافة أو مساهمة العاملين في برنامج التأمين الوطني، كما أنهم يلتزمون بما يعلنه "المحافظون" من خفض حجم الدين العام، ووضع قيود على الاستدانة على مدى السنوات الأربع القادمة. يجادل "العمال" بأنهم سيمولون خطط إنفاقهم المتواضعة، من خلال حفز النمو الاقتصادي، وإجراءات "ترشيدية"، مثل سد الفجوات الضريبية، وفرض ضريبة القيمة المضافة على المدارس الخاصة، إضافة للضريبة على أرباح شركات البترول والغاز التي يمكن أن تصبح دائمة في حال استمرار ارتفاع صعود أسعار الطاقة.

في المقابل يتعهد "المحافظون" بخفض في الضرائب يبلغ 17 مليار جنيه إسترليني سنوياً، وبزيادة حجم الإنفاق العسكري، ويقولون إنهم سيمولون ذلك من خلال خفض النفقات الحكومية في عدة قطاعات، منها موظفو الخدمة المدنية، والاستشارات الإدارية، وبرامج الرفاه، وملاحقة التهرب والثغرات الضريبية. ربما يتسق ذلك مع سياسات "المحافظين" التي تخوّف الناخبين من العمال، وتوجههم نحو رفع الضرائب، لكن خفض برامج الدعم الاجتماعي بما يعادل 12 ملياراً سنوياً لن يكون مهمة سهلة في رأي كثير من الخبراء، خاصة مع تزايد أعداد الحاصلين على إعانة حكومية لأسباب صحية تصنّفهم غير قادرين على العمل.

يعلّق ستيوارت آدم المحلل السياسي في "IFS" على برنامج المحافظين بالقول "إن أسوأ ما فيه أنهم يربطون أيديهم بما يمنعهم من اتخاذ أي إجراء مستقبلي". فواقع الحال أن المحافظين استبعدوا أي زيادة ضريبية، ربما بسبب الارتفاع القياسي في ضرائب الدخل خلال سنواتهم الأخيرة، وكمحاولة أخيرة أيضاً لإرضاء الناخبين، وهو ما يصفه آدم بـ"وعود انتخابية، مبعثها سياسي، وليست نابعة من حزب يريد إصلاح النظام الضريبي، بما يضمن تعزيز النمو، والتخلص من سياسات بالية".

مكمن الخلل في اقتصاد بريطانيا العاثر؟

التوصيف العام لحالة اقتصاد بريطانيا توحي بأن الخرق قد اتسع على الراتق، كما يقول المثل العربي، فأين مكمن الخلل؟

يري البروفيسور حافظ عبده أن المشكلة في الاقتصاد البريطانية "هيكلية وليست عرضية، وأنها ناجمة عن عقود من السياسات الخاطئة، فلو افترضنا أن الحكومة المقبلة سوف تلجأ للضرائب لتمويل برامجها، فالضرائب سوف تأتي من الإنتاج والربحية والنمو الاقتصادي، وهو أمر غير قائم حالياً، فالمطلوب أولاً تحول الاقتصاد إلى مستوى من الأداء الناجح الذي يحقق النمو. لكن أياً من الأحزاب المتنافسة لا يقدم خططاً واضحة لحفز النمو الاقتصادي، أو خفض معدل البطالة، أو معالجة أزمة تكاليف المعيشة وارتفاع الأسعار".

وتراهن برامج الأحزاب البريطانية إذن على النمو الاقتصادي وكأنه ورقة مضمونة، سواء لخفض الضرائب، كما يرى "المحافظون"، أو لزيادة النفقات كما يأمل "العمال". لكن الحزبين الكبيرين لم يطرحا سؤالاً رئيسياً في برامجهما: ماذا سيحدث إذا لم يتحقق هذا النمو نتيجة لعوامل داخلية أو خارجية، وهو أمر وارد، خاصة في سياق التذبذب الذي يسير عليه الاقتصاد البريطاني مؤخراً. فقد تراجع إجمالي الناتج المحلي في الربع الثالث من العام الماضي بنسبة 0.1% تزايدت إلى 0.3% في الربع الأخير، قبل أن يعود للنمو بنسبة 0.6% في الربع الأول من العام الجاري.

لكن أرقام مكتب الإحصاء الوطني لشهر إبريل/ نيسان الماضي تشير إلى توقف النمو، ومن غير المعروف في أي اتجاه سيسير الاقتصاد بعد ذلك، وهو ما يجعل رهانات الأحزاب موضع شك مشروع.

وخلال الأسبوع الماضي أصدر معهد أبحاث السياسات العامة (IPPR) تقريراً صادماً عن معدل الاستثمارات الخاصة (غير الحكومية) في الاقتصاد البريطاني، ليكشف عن أنها في المستوى الأدنى بين مجموعة الدول الصناعية السبع، وللعام الثالث على التوالي. ويشدد تقرير المعهد على أهمية تلك الاستثمارات في نمو الاقتصاد وزيادة الإنتاجية، من خلال المساهمة في بناء المصانع والتجهيزات وتشجيع الابتكارات، وهو ما يؤدي في النهاية لرفع دخول البريطانيين. وجاءت المملكة المتحدة في المرتبة الـ28 من بين 31 دولة في استقطاب الاستثمارات الخاصة، متأخرة عن دول مثل سلوفينيا ولاتفيا والمجر.

كما حذّر تقرير حديث لمؤسسة "روزليوشن فاونديشن" البحثية من الوعود الاقتصادية التي يطلقها الحزبان الكبيران، ووصفها بأنها "منفصلة عن الواقع، وأنه يتعين على أي حكومة مقبلة أن تتوقع تبني إجراءات تقشف صارمة لسد فجوة الموازنة العامة". وحسب التقرير فإن بريطانيا قد تواجه عجزاً في ماليتها يقدر بـ 33 مليار جنيه إسترليني، في ظل النمو الاقتصادي البطيء، وارتفاع فوائد ديونها.

لكن الرأي العام، أو جمهور الناخبين، الذين صبروا على التدهور الاقتصادي الذي لازم حكومة المحافظين، لا يفضلون بالتأكيد سماع أخبار التقشّف، فالخدمة الصحية الوطنية تعيش أسوأ أوقاتها، بعدما تضاعف عدد المرضى على قوائم الانتظار ثلاث مرات، ليصل إلى أكثر من 6.3 ملايين شخص، والمجالس البلدية تعاني عجزاً متواصلاً في موازنتها، وبعضها أفلس، أو على وشك الإفلاس بالفعل، وقطاع التعليم يعاني عجزاً مستمراً في التمويل يلقي بكاهله على خريجين مثقلين بالديون حتى قبل أن يبدأوا حياتهم العملية.

والحال هكذا لا يبدو أمام الحكومة المقبلة سوى ثلاثة خيارات أحلاها مر: إما أن تخفض النفقات، وهو أمر مؤلم باتفاق الجميع، أو ترفع الضرائب، وهو أمر يبدو غامضاً بالنسبة للعمال، ومستبعداً بالنسبة للمحافظين الذين رفعوا الضرائب بالفعل إلى مستوى هو الأعلى على مدى عقود، من خلال تجميد حد الإعفاء الضريبي، حيث يتوقع أن تبلغ مساهمة الضرائب في الدخل القومي ما يزيد عن 37% بحلول عام 2029، أو تذهب إلى الاستدانة رغم تعهّد الحزبين الكبيرين بخفض مستوى الدين على مدى السنوات الخمس المقبلة.

مخاوف على الديمقراطية في بريطانيا

لا ينفصل الاستقرار السياسي في بريطانيا عن العملية الاقتصادية، فقبل شهور حذر مايكل غوف، وزير الإسكان المكلف، من أن الجيل الناشئ قد يكفر بالديمقراطية برمتها إذا تأكد أنها لن تخدم حلمه بامتلاك منزل. المقصود هنا بالتأكيد هو صعود اليمين القومي والشعبوية، وكلاهما أصبح شبحاً يهدد ديمقراطيات أوروبا في الأعوام الأخيرة.

المساهمون