أختار الرئيس الأميركي جو بايدن جانيت يلين وزيرة للخزانة لتكون أوّل أمرأة تتولَّى هذا المنصب المرموق، وسبق لها أن تقلَّدت منصب رئيسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) خلال العهدة الرئاسية الثانية لباراك أوباما، وشغلت أيضاً منصب رئيسة مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس بيل كلينتون.
وجاء تعيين هذا الوجه الاقتصادي المألوف في "الكابيتول هيل" خلال واحدة من أكثر الفترات الاقتصادية والسياسية اضطراباً في تاريخ الولايات المتحدة كخطوة بايدنية لإرجاع الاقتصاد الأميركي المنكوب بالجائحة إلى المسار الصحيح، وضمان التسيير الجيّد لحزمة الإغاثة، والتي سبق أن صرح بايدن بتقديمها بمجرّد توليه الرئاسة والبالغة قيمتها 1.9 تريليون دولار وتشمل مدفوعات تحفيزية بقيمة 1400 دولار للأفراد، في الوقت الذي ترزح فيه البلاد تحت ضغط الديون الكبير، علاوة على تخطِّي عجز الميزانية عتبة 3 تريليونات دولار العام الماضي، وبلوغ أسعار الفائدة مستويات منخفضة قياسية قلَّلت من جاذبية الاقتصاد للاستثمارات الأجنبية.
يتوقَّع بايدن أن تساهم يلين في ترميم ما أفسدته كورونا في الاقتصاد الأميركي، وإصلاح الاعوجاج الذي تسبَّبت به السياسات الترامبية المرتجلة، وتسيير الخزانة الأميركية بعيداً عن المسار الذي انتهجه وزير الخزانة السابق ستيفن منوشين، والذي أربك بورصة وول ستريت بعد توقيف معظم برامج الإقراض الطارئة التي قدَّمها بنك الاحتياطي الفيدرالي لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة في بداية تفشِّي الجائحة.
تواجه جانيت يلين، التي وجدت طريقها إلى أعلى المناصب الاقتصادية في الولايات المتحدة والضالعة في أمور السياسة النقدية، تحدّيات كبيرة متعلقة بالروابط الاقتصادية بين أميركا والصين، والعقوبات الأميركية على إيران، وإدارة الدين العام، وإنشاء وتنفيذ السياسات المالية والاقتصادية والضريبية، لاسيَّما في ظلّ حتمية اتِّخاذ تدابير مستقبلية لتحقيق الاستقرار في نسبة الدين الحكومي الأميركي إلى الناتج المحلي الإجمالي، كزيادة الضرائب، وخفض الإنفاق، وفرض المزيد من التنظيم والتي لن تحظى بترحيب شعبي، وكذا تحقيق التعافي الاقتصادي بعيداً عن شكل حرف K الذي تُبنى فيه ثروات لفئات على حساب معاناة فئات أخرى لا سيَّما العاملة والفقيرة منها، ويتفاقم خلاله عدم المساواة في الدخل والثروة.
وقد عبَّرت يلين عن عزمها على حشد المزيد من الدعم المالي لمؤسسات التمويل المتكاملة (CDFI) لتُمكِّنها من خدمة مجتمعات الأقليات بشكل أفضل، على عكس إدارة ترامب التي حاولت مراراً وتكراراً قطع ذلك الدعم المالي.
كما أكَّدت يلين على ضرورة محاربة التلاعب بالعملات بهدف الحصول على ميزة تجارية تنافسية غير عادلة، فهي تتَّفق إلى حدّ ما مع إدارة ترامب في حتمية كبح جماح الصين وتلاعبها بالعملة وممارساتها التعسُّفية في حق السياسة النقدية، ولكنها تعارض تماماً إقامة حواجز تجارية مع الصين، وتخفيض قيمة الدولار بغية نيل ميزة تنافسية في السباق التجاري الأميركي مع الصين، فهي مصرّة على أنّ الولايات المتحدة لا حاجة لها إلى عملة ضعيفة.
تصريحات يلين المؤيِّدة لخطة بايدن للتحفيز في جلسة استماع اللجنة المالية في مجلس الشيوخ في 19 يناير/ كانون الثاني 2021، كانت كفيلة برفع الأسهم الأميركية، حيث ارتفع مؤشر S&P 500 بنسبة 0.9 بالمائة في فترة ما بعد الظهر من اليوم نفسه، كما ارتفعت عوائد السندات لأجل 10 سنوات بنحو 0.01 نقطة مئوية.
ويبدو أنّ يلين كانت مستعدّة بما يكفي لهذه الجلسة لكي تضع أوّل الحلول على الطاولة، فقد أكَّدت على أنّها ستنظر في إمكانية إصدار سندات مدّتها 50 عاماً، أي أطول أجلاً من تلك المعمول بها حالياً والبالغة مدّتها 30 عاماً، وبرَّرت ذلك بوجود ميزة وإمكانية لتمويل الدين من خلال إصدار دين طويل الأجل للاستفادة من الوضع الحالي الذي تشهد فيه أسعار الفائدة انخفاضاً شديداً.
أهداف جانيت يلين تتجاوز مجال السياسة النقدية لتمسّ مبدأ المساواة، فقد صرَّحت عن طموحها لبناء مجتمع أميركي يمكن فيه لكل شخص الارتقاء إلى مستوى إمكاناته وتحقيق حلمه وحلم أطفاله، وأكَّدت خلال تلك الجلسة على أنّها ستعمل جاهدة على دعم الفئات ذات الدخل المنخفض والتي حرمتها جائحة كورونا من الوظائف الدائمة.
فقد أشار معهد بروكينغز، في تقرير أصدره في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 تحت عنوان "تتبُّع التحديات المتزايدة بين أولئك الذين فقدوا وظائفهم"، إلى ارتفاع نسبة العاطلين من العمل الذين تمَّ تسريحهم بشكل دائم من 10 بالمائة في إبريل/ نيسان 2020 إلى حوالي 40 بالمائة في سبتمبر/ أيلول 2020، وقد تحمَّل العمال ذوو الأجور المنخفضة العبء الأكبر من تلك التسريحات.
هذه هي المرّة الثانية التي تتولَّى فيها يلين منصباً فيدرالياً خلال كارثة مالية، فقد عملت كرئيسة ومديرة تنفيذية لبنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو من 2004 إلى 2010، وهي الفترة الاقتصادية الأكثر اضطراباً في التاريخ الحديث قبل قدوم الجائحة التي عبثت بكل المؤشرات الاقتصادية.
ولدى وزيرة الخزانة الجديدة سجِّل جيّد وحافل في التعامل مع الأزمات المالية، والرائع في الأمر أنّها تحظى بتقدير كبير من قبل الجمهوريين والديمقراطيين على حدّ سواء، لتغدو موضع ترحيب في المناخ السياسي الحالي.
تقف هذه السيدة المتمرِّسة في الشؤون المالية أمام مهمة صعبة، تتمثل في ترويض العجز العام، ولجم الدين الحكومي الأميركي الذي وصل إلى 21.6 تريليون دولار، وإعادة النبض إلى استثمار القطاع الخاص الذي تباطأ في الولايات المتحدة بسبب انخفاض الاستثمار في الآلات الكبيرة، حيث أصبح الاقتصاد أكثر توجُّهاً نحو الخدمات وانتقلت المصانع إلى الصين، ولا ننسى أنّها ورثت اقتصاداً لا تزال فيه معدلات البطالة مرتفعة وإنفاق المستهلكين مُقيَّد بسبب الجائحة، علاوة على التهديدات المتصاعدة التي تواجهها الشركات الصغيرة.
خلاصة القول إنّ يلين هي الشخص المناسب بالتأكيد لشغل منصب وزيرة الخزانة، وخبرتها العريقة ومؤهلاتها الأكاديمية لا تشوبها شائبة، وخدمتها في المناصب الاقتصادية الحساسة في أعقاب الركود العظيم عقب الأزمة المالية العالمية في 2008 -2009 يؤكِّد أنّ تعاملها مع الأزمات وآثارها المستمرة ليس بالأمر الجديد بالنسبة لها، ولكن قدرتها على إيجاد الترياق لمشاكل الاقتصاد الأميركي، التي تفاقمت بسبب كورونا، مرهونة بمدى الاستقلالية التي ستحظى بها، وكذا طبيعة القرارات التي سيتَّخذها الرئيس بايدن خلال عهدته.