أطلقت السعودية رؤية 2030 في إبريل/نيسان 2016، وهي خطة طموحة تضم إصلاحات واسعة تهدف لتحويل المملكة إلى قوة استثمارية عالمية وتنهي اعتماد اقتصاد البلاد على النفط كمحرك رئيس للاقتصاد، وذلك من خلال استهداف سياسة التنويع الاقتصادي وتعميق القطاعات الإنتاجية وتعظيم الإيرادات السياحية.
وهدفت الرؤية السعودية كما أعلن حينذاك إلى زيادة الإيرادات غير النفطية إلى 600 مليار ريال (160 مليار دولار) بحلول عام 2020 وتريليون ريال بحلول عام 2030، ولم تكشف الرؤية عن سبل تحقيق هذه الأهداف، وهي الأرقام التي تعذر تحققها بصورة كبيرة حتى الآن.
كما أنه بات من الواضح أن الاستثمارات الأجنبية لن تسعف تنفيذ الرؤية بنجاح وبالسرعة المستهدفة، حيث كان من المخطط بلوغ الاستثمارات الأجنبية نحو 19 مليار دولار بحلول عام 2020، في مقابل 5.4 مليارات فقط وقت إطلاق الخطة، ولكن تشير البيانات إلى تراجع حاد في الاستثمارات الأجنبية الوافدة إلى المملكة خلال الأعوام الأخيرة، وبما يهدد نجاح تنفيذ مشروعات الرؤية وفي مقدمتها مشروع نيوم الذي سيتكلف 500 مليار دولار.
وكشف موقع "فوربس" الاقتصادي عن تراجع كبير للاستثمارات الداخلية في المملكة في عام 2021، واصفا إياها بأنها باتت تلامس الأرض انخفاضا، كما أظهرت البيانات الصادرة عن البنك المركزي السعودي، أن الاستثمار الأجنبي بلغ 1.75 مليار دولار في الربع الثالث من عام 2021، منخفضاً بشدة عن الرقم القياسي البالغ 13.8 مليار دولار في الربع الثاني، والذي تم تعزيزه من خلال صفقة لشبكة خطوط الأنابيب لشركة أرامكو عملاق الطاقة السعودي.
إطلاق الاستراتيجية الوطنية للاستثمار
لعل هذا الانخفاض الحاد في الاستثمارات الأجنبية هو الذي دفع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى إطلاق الاستراتيجية الوطنية للاستثمار في منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي تهدف إلى رفع صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 388 مليار ريال (103.5 مليارات دولار) بحلول عام 2030، وذلك في إطار استهداف زيادة الاستثمار المحلي إلى 1.7 تريليون ريال (453 مليار دولار) سنوياً بحلول عام 2030، وكلها أهداف تبدو خيالية وبعيدة كثيرا عن الواقع في ظل الأرقام الحالية.
عموما تكمن أهمية الاستراتيجية الجديدة ليس فقط في التأكيد على أن الاستثمارات الأجنبية تمثل عصب رؤية 2030، وأن تراجع هذه الاستثمارات يهدد نجاحها، ولكن أيضا لأنها تبعث رسائل الطمأنينة إلى المستثمرين الأجانب الذين شككوا كثيرا في مناخ الاستثمار بالسعودية واستقراره، لا سيما بعد التضييق على كبار رجال الأعمال وشخصيات أخرى في عام 2017، والتي وصفتها السلطات بأنها حملة لمكافحة الفساد، وأدت إلى تراجع حاد للاستثمارات الأجنبية الوافدة للمملكة.
كما أن هناك مخاوف أيضا لدى شركات القطاع الخاص بسبب فواتير الضرائب الضخمة التي طالبت بها الحكومة شركات أجنبية مثل "أوبر" و"كريم"، كما أدى تهديد الرياض الشركات متعددة الجنسيات بفقدان فرص اقتصادية كبيرة في المملكة، إذا لم تنقل مقارها إلى السعودية، إلى تذمر المديرين التنفيذيين المقيمين في أماكن مثل دبي، وهي أماكن أقل تحفظا وتوفر وسائل راحة أفضل.
تحديات الرؤية أوسع من الاستثمارات الأجنبية
تبدو المشكلة الرئيسية لاستراتيجيات المملكة اعمق من عودة الثقة اللازمة لجذب الاستثمارات الأجنبية، فالمبالغة الرقمية الكبيرة وعدم واقعية الأهداف هي التحدي الكبير الذي يواجه الرؤية، فعلى سبيل المثال تستهدف الرؤية زيادة نسبة الصادرات غير النفطية من 16% إلى 50% من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي، وتخفيض معدل البطالة إلى 7%، كما أن بن سلمان، وعد بضخ استثمارات تفوق 12 تريليون ريال (3.2 تريليونات دولار) في الاقتصاد المحلي حتى العام 2030، وهي الأرقام التي لم تظهر بشائرها رغم مرور أكثر من خمس سنوات علي تدشين الرؤية، ولا يعرف تحديدا مصادرها، ولا كيف حددت.
حتي القطاع السياحي الذي ظهر جليا الاهتمام الكبير به من خلال مشروع نيوم تواجهه الكثير من التحديات التي تقوض الرقم الحكومي المتوقع بجذب 50 مليون سائح سنويا إلى المملكة مفضلين السعودية على الوجهات الأخرى، وفي مقدمة هذه التحديات تأتي المكانة الدينية للمملكة والتي لن تسمح بإباحة العري والخمور، كما أن سياحة الحلال ستواجه فيها المملكة منافسة شرسة من أسواق سياحية عتيدة وأكثر تنوعا من المملكة وأرخص منها كذلك وفي مقدمتها ماليزيا وتركيا، ولم يجب أي مسؤول سعودي عن كيفية الوصول إلى هذا الرقم الضخم الذي سيقتنص من سوق السياحة العالمية الشرس تنافسيا.
كما أن الأمير محمد بن سلمان أكد على أن المرحلة القادمة تشمل تطوير خطط استثمارية تفصيلية للقطاعات، منها الصناعة، والطاقة المتجددة، والنقل والخدمات اللوجستية، والسياحة، والبنية التحتية الرقمية، والرعاية الصحية، وفات الأمير مرور أكثر من خمس سنوات كاملة على تدشين الرؤية، وأن الباقي منها للتنفيذ 10 سنوات فقط، وأن عدم إعداد تلك الخطط حتى الآن دليل دامغ علي تعثر مسيرة الرؤية.
السؤال: هل تعوض الاستثمارات العامة قصور الاستثمارات الأجنبية والخاصة؟ فقد كشفت مؤسسة "آي إتش إس" ماركت للأبحاث عن تراجع مؤشر مديري المشتريات الذي يرصد أداء القطاع الخاص غير النفطي في السعودية، خلال ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلى أدنى قراءة في 9 أشهر، وجاء ذلك نتيجة المخاوف بشأن متحور "أوميكرون" وتأثيره على طلب العملاء وثقة الشركات، وبذلك فإن تراجع نشاط القطاع الخاص يتكامل مع تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى المملكة، ليزيدا من تحديات نجاح رؤية 2030.
ويبدو أن المسار الإجباري الذي ستضطر المملكة لارتياده خلال الفترة القادمة سيكون ضخ استثمارات حكومية ضخمة كإجراء تعويضي لذلك، وبالفعل لجأت الحكومة إلى صندوق الثروة السيادي والذي أعلن أنه استثمر نحو 84 مليار ريال (22.4 مليار دولار) في الاقتصاد المحلي في عام 2021، مع توقعات بأن يرتفع إلى 150 مليار ريال (40 مليار دولار) في عام 2022.
ومن المتوقع كذلك أن يصل حجم المحفظة المحلية للصندوق إلى 3 تريليونات ريال بحلول عام 2030 مقابل 11 مليار ريال في 2016، ومن الواضح أنه سيتم الاعتماد بشكل متزايد على هذه الكيانات الحكومية لتحل محل استثمار الحكومة المركزية خاصة في ظل استمرار عجز الموازنة العامة حتى بعد ارتفاع أسعار البترول.
ومنذ وقت قريب أشارت شركة الاستشارات كابيتال إيكونوميكس إلى أنه بينما كانت الحكومة السعودية تتوقع تحقيق فائض في الميزانية في عام 2022، فإن الوضع المالي الحقيقي تخيم عليه التبعية المتزايدة تجاه صندوق الاستثمارات العامة والهيئات الحكومية الأخرى لتحفيزها.
عموما رؤية 2030 رؤية طموحة شابها الكثير من عدم الواقعية والمبالغة في وضع الأهداف، كما أنها تسير بصورة أبطأ كثيرا مما خطط له، كما أن ارتكازها على القطاع السياحي الترفيهي يشوبه الكثير من عدم اليقين، كل ذلك، بالإضافة إلى عزوف الاستثمارات الأجنبية والتي تشكل حجر الزاوية في تمويل مشروعات الرؤية.
ورغم أن الاستثمارات الحكومية قد تعوض ذلك جزئيا، إلا أن القدرة والاستمرارية يشوبها الكثير من الشكوك.
نجاح أية رؤية اقتصادية يستلزم التكاتف بين الحكومة والمجتمع، كما يستلزم الكثير من التعاون مع الدول الصديقة ذات الخبرات العميقة في المجالات المختلفة، كما يتطلب الانطلاق من بناء قواعد إنتاجية صناعية وزراعية انطلاقا من الموارد المحلية المتاحة ومن متطلبات الاكتفاء الذاتي، وكلها أمور تحتاج إلى رسم ليس فقط خطط اقتصادية رشيدة، ولكن أيضا إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية والدولية.