منذ أيام، قطعت دولة الاحتلال الغاز الطبيعي كلياً عن مصر، سواء المخصص لأغراض التصدير أو الاستهلاك المحلي، هذا بشهادة شركات الطاقة الأجنبية التي تشارك في استخراج الغاز الإسرائيلي من مناطق شرق البحر المتوسط، أو بشهادة الحكومة المصرية نفسها التي أكدت في بيان أمس الأحد انخفاض كميات الغاز الموردة من خارج مصر من 800 مليون قدم مكعبة غاز يومياً إلى صفر.
الحكومة تتحدث هنا عن توقف الغاز الإسرائيلي تحديداً، والذي تستورد كميات كبيرة منه، في إطار صفقة تتجاوز قيمتها حالياً 20 مليار دولار، جزء يعاد تصديره لأسواق أوروبا المتعطشة للوقود الأزرق، عقب حد دول القارة استيراد الغاز الروسي مع اندلاع حرب أوكرانيا.
وجزء آخر يوجه للاستهلاك المحلي في مصر، سواء للمنازل أو المصانع بشهادة وزير البترول المصري طارق الملا، يوم 18 مايو 2018، والذي قال إن "مصر ستستخدم جزءاً من الغاز الإسرائيلي المستورد في السوق المحلية، وإن ذلك الغاز سيغطي حاجة مصر ويحل أزمات كثيرة، وأن الأمر سيحول مصر لمركز إقليمي لتداول الطاقة والذي يتمثل في التجارة، بالإضافة إلى أنه يجعلها دولة مصدرة ومستوردة للغاز والمنتجات البترولية".
إسرائيل توقفت عن تصدير الغاز لمصر عقب اندلاع الحرب على غزة، ومن المتوقع أن يكون للقرار تأثيرات سلبية على أنشطة اقتصادية عدة
إذاً، إسرائيل توقفت عن تصدير الغاز لمصر عقب اندلاع الحرب على غزة، ومن المتوقع أن يكون للقرار تأثيرات سلبية على أنشطة اقتصادية عدة يمكن رصدها في وقت لاحق منها مثلا المصانع ومحطات إنتاج الكهرباء والمواصلات وغيرها، فهل تتحرك الحكومة المصرية لمقاضاة إسرائيل أمام المحاكم الدولية، كما فعلت دولة الاحتلال في الفترة التي أعقبت ثورة 25 يناير، حيث توقف تدفق الغاز المصري لإسرائيل، بل وحصلت تل أبيب بالفعل على أحكام بتعويضات تتجاوز 1.7 مليار دولار؟
صفقة مريبة
وحتى نفهم القصة من أولها لنعد للوراء، وتحديداً لعام 2008 حيث بدأت مصر تصدير الغاز لإسرائيل إبان حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، بموجب اتفاقية وقعتها حكومته عام 2005 مع دولة الاحتلال تقضي بتصدير 1.7 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز ولمدة 20 عاماً، وبثمن بخس بين 70 سنتاً و1.5 دولار للمليون وحدة حرارية، في حين كان سعر التكلفة 2.65 دولار، وهو ما أضاع مليارات الدولارات على خزانة مصر، خاصة أن شركة الغاز الإسرائيلية حصلت على مزايا أخرى منها إعفاء ضريبي من الحكومة المصرية لمدة 3 سنوات، اي في الفترة من "2005 - 2008"، وضمان حصول المؤسسات الإسرائيلية على احتياجاتها من الطاقة وبشكل منتظم، حيث قُدر آنذاك أن مصر تمد إسرائيل بنحو 40% من احتياجاتها من الغاز.
ساعتها أثارت الاتفاقية احتجاجات واسعة، سواء داخل الشارع أو بين نواب مجلس الشعب المصري. حدث ذلك في الوقت الذي كان المصريون يلهثون بحثاً وراء أنبوبة غاز للطهي، ففي الشهور الأولى من عام 2010، عانى المواطن بشدة من نقص أسطوانات الغاز لعدم وصول الغاز لكل المحافظات في ذلك الوقت.
وفي صيف عام 2010 شهدت مختلف المناطق انقطاعات مستمرة في التيار الكهربائي، أعقبها قطع التيار عن مختلف المحافظات بدعوى تخفيف الأعباء.
استمر هذا الوضع سنوات في صفقة مريبة أشرف عليها حسين سالم، رجل الأعمال المقرب من مبارك وصديقه الشخصي. ورغم أزمة الوقود الحادة، وصدور أحكام قضائية بوقف تنفيذ الاتفاقية، استمر تدفق الغاز المصري على إسرائيل إلى أن قامت ثورة 25 يناير، بعدها رفض الرأي العام الصفقة المريبة، وتفجير أنبوب توصيل الغاز المصري لإسرائيل مرات عدة، من قبل أطراف رافضة الاتفاقية، وفي فبراير/ شباط 2011 بدأت سلسلة من الهجمات استهدفت خط عسقلان-العريش الناقل للغاز المصري، والذي تعرض للتفجير أكثر من 15 مرة خلال فترة قصيرة لا تتجاوز العام ونصف.
رفض واسع للصفقة
بعدها خرجت احتجاجات واسعة في مصر ضد اتفاقية تصدير الغاز المصري لإسرائيل، وجرى تأسيس حملة حملت اسم "الحملة الشعبية لوقف تصدير الغاز المصري (لا لنكسة الغاز). والتي قاضت الحكومة وأقامت دعاوى قضائية عدة، في محاولة لإلغاء الاتفاقية وإلزام الحكومة بوقف التصدير.
وفي إبريل/ نيسان عام 2011، أمر رئيس الوزراء آنذاك، عصام شرف، بمراجعة كل عقود تصدير الغاز بما فيها المبرمة مع إسرائيل والأردن.
وبعدها بعام أعلنت الشركة المصرية القابضة للغاز التابعة للدولة إلغاء اتفاق تصدير الغاز لإسرائيل. بالطبع لم تقف دولة الاحتلال مكتوفة الأيدي حيث سارعت بمقاضاة مصر، وهو ما أدى إلى نشوب نزاع تحكيم دولي لدى محاكم فرنسية وسويسرية قادته تل أبيب ضد القاهرة للحصول على تعويضات نتيجة أضرار زعمتها من فسخ التعاقد المصري من جانب واحد.
صدر قرار التحكيم الدولي في ديسمبر/كانون الأول 2015 بإلزام مصر، بدفع تعويض للجانب الإسرائيلي قدره 1.760 مليار دولار
وبالفعل صدر قرار التحكيم الدولي في ديسمبر/كانون الأول 2015 بإلزام مصر، بدفع تعويض للجانب الإسرائيلي قدره 1.760 مليار دولار.
وبعدها مباشرة وفي يونيو/ حزيران 2012 صدر حكم ضد وزير البترول المصري السابق، سامح فهمي، ورجل الأعمال حسين سالم، بالسجن 15 عاماً في قضية تصدير الغاز إلى إسرائيل.
وعقب ما جرى في مصر في منتصف عام 2013، ظهرت تسريبات مريبة عن وجود مفاوضات حول استيراد مصر الغاز الإسرائيلي بعد أن كانت تصدره، وزادت التسريبات في نهاية عام 2014، حيث ترددت أنباء عن اتفاق جديد لتصدير الغاز بين الطرفين، لكنه هذه المرة كان الضخ في الاتجاه المعاكس للاتفاق الأول.
صفقة العمر للاحتلال
ولم تخرج تلك الأنباء للنور لمدة تقارب 4 سنوات، لأسباب لا يعرف حقيقتها المواطن المصري بعد. لكن يوم 19 فبراير 2018 كشفت تل أبيب أنها وقّعت اتفاقاً مع القاهرة، يجري بموجبه تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر من حقل تمار بقيمة 15 مليار دولار ولمدة 10 سنوات. ونص الاتفاق، على توريد شركة ديليك الإسرائيلية، المالكة حقوق التنقيب في حقلي تمار وليفياثان 64 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً إلى شركة دولفينوس المصرية.
واكب تلك الخطوة إعلان مصر في سبتمبر/أيلول 2018، تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز وعدم الحاجة للاستيراد، خاصة بعد اكتشاف حقل ظُهر في عام 2015، وهو ما أربك الرأي العام الذي راح يسأل، إذا كانت الدولة تحقق الاكتفاء الذاتي، فلماذا الاستيراد من دولة الاحتلال وبمبالغ ضخمة ولسنوات طويلة، وكانت الإجابة الرسمية الحاضرة هي أن الاستيراد لأغراض التصدير، لكن وزير البترول المصري طارق الملا نسف الرواية بتأكيده أن جزءاً من الغاز المستورد يوجه للاستهلاك المحلي.
وعقب توقيع تلك الاتفاقية، وفي 17 يونيو/حزيران 2019، توصلت مصر إلى تسوية مع الجانب الإسرائيلي بشأن النزاع على إلغاء الاتفاقية، تدفع بموجبه تعويضاً قيمته نصف مليار دولار على أقساط ولمدة 8.5 أعوام.
هنا أغلقت القاهرة وتل أبيب ملف تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل نهائياً، بعد سنوات من النزاعات المحلية والدولية، لتبدأ قصة أخرى عكسية تماماً، تتعلق بتصدير الغاز الإسرائيلي لمصر. هنا بدأت تل أبيب في الحديث عن الصفقة الأهم في تاريخها منذ اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين البلدين عام 1979.
القاهرة أبرمت صفقة لاستيراد الغاز الإسرائيلي وصفتها دولة الاحتلال بالتاريخية والأهم منذ اتفاق كامب ديفيد
ومع بدء اتخاذ خطوات تنفيذ الاتفاق الجديد، حاولت الحكومة المصرية التخفيف من صدمة الرأي العام حيث قالت إن استيراد الغاز من إسرائيل من شأنه أن يحول مصر إلى مركز إقليمي للطاقة، ولاعب قوي في الانتفاع من حقول الغاز في شرق البحر المتوسط، إلا أن ضخ الغاز الإسرائيلي لم يبدأ رسمياً إلا في 16 يناير/كانون الثاني 2020.
ومنذ هذا العام وحتى النصف الأول من عام 2023، شهد ملف واردات مصر من الغاز الإسرائيلي تطورات متسارعة مع خطط مصرية جديدة لزيادة الاستيراد، وحديث القاهرة عن تعزيز صادرات الغاز المسال، والاستفادة من الطلب الأوروبي المتزايد على الوقود الأزرق، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في شهر فبراير 2022.
وفي وقت لاحق اتفق الطرفان المصري والإسرائيلي على زيادة قيمة العقد إلى 19.5 مليار دولار، مع رفع المدة إلى 15 عاماً، وزيادة الكميات المتفق على توريدها إلى 85 مليار متر مكعب سنوياً، ثم رفع القيمة لأكثر من 20 مليار دولار في وقت لاحق.
وفي مايو الماضي وافقت الحكومة الإسرائيلية على خطة بناء خط أنابيب جنوب البلاد، يمتد مسافة 65 كيلومتراً إلى الحدود مع مصر، لنقل 6 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً، بهدف زيادة الصادرات لمصر.
وبعدها بنحو شهر أبرمت كل من مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي اتفاقاً ثلاثياً في القاهرة حول تجارة ونقل وتصدير الغاز، وجاءت الخطوة وسط مساع أوروبية للتخلص من اعتمادها على الوقود الروسي.
ووفق أحدث البيانات المصرية الرسمية ارتفعت كميات الغاز التي تستوردها مصر من إسرائيل في العام المالي الماضي، أي نهاية يونيو/ حزيران 2023، بنسبة 42.77%، لتصل إلى 272.7 مليار قدم مكعبة من الغاز، مقابل 191 مليار قدم مكعبة في العام المالي السابق 2021-2022.
توقفت صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر إلى الصفر، رغم الاتفاق مؤخراً على زيادة الكميات بنحو 30% بداية من أكتوبر
لكن مع اندلاع الحرب على قطاع غزة هبطت واردات مصر من الغاز الإسرائيلي في أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، مع وقف عمليات إنتاج الغاز من حقل تمار، لتسجل نحو 350 مليون قدم مكعبة من الغاز يومياً، بعد أن كانت تتخطى 850 مليون قدم قبل توقف إنتاج الحقل.
الآن، توقفت صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر إلى الصفر، ورغم الاتفاق مؤخراً بين البلدين على زيادة الكميات بنحو 30% بداية من الشهر الجاري.
فهل تقاضي الحكومة المصرية نظيرتها الإسرائيلية بسبب هذا التوقف المفاجئ، عن تصدير الغاز، وترد جزءاً مما دفعته القاهرة من غرامات دولية للاحتلال خلال السنوات الماضية، أم تغض الطرف وتبرر الوقف للجانب الإسرائيلي؟