يتجه بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، لزيادة أخرى في معدل الفائدة على الدولار ربما بنسبة 0.75% في الاجتماع القادم المقرر في نوفمبر/ تشرين الثاني، تليها زيادة أخرى في ديسمبر/ كانون الأول حسب توقعات العديد من بنوك الاستثمار وخبراء الاقتصاد.
ويقود الفيدرالي الأميركي عادة البنوك المركزية العالمية في تبني السياسة النقدية المشددة بسبب حجم تأثير الاقتصاد الأميركي الضخم البالغ نحو 23 تريليون دولار ونفوذ الدولار والمصارف الأميركية على التجارة وحركة التمويل في العالم.
وتأمل البنوك المركزية بقيادة الفيدرالي عبر سياسة رفع الفائدة التمكن من خفض معدل التضخم وتفادي دفع الاقتصاد الأميركي والعالمي نحو السقوط في هاوية الركود، ولكن هل تنجح في ذلك؟
حتى الآن وفقاً لهذه السياسة رفع مصرف الاحتياط الفيدرالي أسعار الفائدة إلى نطاق يراوح بين 3 و3.2%، ويتجه لرفع الفائدة بنسبة 0.75% أخرى في اجتماعه خلال الشهر المقبل، كما رفع البنك المركزي الأوروبي الفائدة إلى نطاق يراوح بين 0.75 و1.5%، وهنالك العديد من البنوك المركزية الكبرى رفعت الفائدة بمعدلات مساوية لمستويات الفائدة الأميركية أو أعلى في الاقتصادات الناشئة.
ويتوقع مسؤولو الاحتياط الفيدرالي أن يتجاوز معدل الفائدة نسبة 4% خلال العام المقبل.
لكن على صعيد الواقع، فإنه على الرغم من الكوارث الاقتصادية التي تسببت فيها الفائدة المرتفعة على النطاق العالمي، حيث أدت إلى إفلاس دول وتعثر أخرى بسبب قوة العملة الأميركية، هنالك قلق من أن هذه السياسة ربما تقود إلى كساد مالي عالمي، وربما لن تخفض معدل التضخم على مدى العام المقبل أو في العام 2024 ، وأن تراجع معدل التضخم ربما سيأخذ مدة أطول تصل إلى ثلاث أو أربع سنوات.
في هذا الصدد، يضرب صندوق النقد الدولي، في تقريره حول منظور الاقتصاد العالمي الصادر هذا الشهر، مثلاً بما حدث في أميركا في السبعينيات، حينما واجه رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي بول فولكر أوضاعاً اقتصادية مماثلة للوضع الحالي.
حينما تسلم فولكر منصب رئاسة المركزي الأميركي في صيف العام 1979 كان معدل التضخم وقتها 9.8% وسعر الفائدة على الدولار 11.2%، ورفع فولكر الفائدة البنكية على الدولار إلى 20%، وكانت النتيجة دخول أميركا في دورة ركود اقتصادي، ولكن معدل التضخم لم يتراجع إلى المستويات المستهدفة إلا بعد ثلاث سنوات في العام 1981 حين بلغ 3.4%.
ويرى الصندوق في تقريره الأخير أن تعديل السياسة النقدية من الناحية النظرية عادة ما يكون له مفعول على الدورة الاقتصادية بعد مرور سنة أو أكثر من تطبيقه على النمو الاقتصادي، بينما يكون له مفعول على التضخم بعد مرور ثلاث أو أربع سنوات من بدء تطبيقه.
كما يرى اقتصاديون أن هنالك عوامل أخرى غير التوسع في الكتلة النقدية أدت إلى الارتفاع الكبير في معدل التضخم الحالي في أميركا وأوروبا، وعلى رأسها الحرب الروسية في أوكرانيا وتداعياتها على أسعار الطاقة والحبوب التي رفعت أسعار المواد الغذائية، كما رفعت أسعار المعادن والطاقة، وهو ما أدى إلى غلاء أسعار السلع المصنعة وضغط على ميزانيات الأسر.
في هذا الصدد، تقول الزميلة بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي كارن دانيان إن تشديد السياسة النقدية كان السبب الرئيسي في التباطؤ الاقتصادي العالمي إلى جانب الحرب الروسية على أوكرانيا وما أحدثته من صدمة على الاقتصاد العالمي، حيث أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، كما تضيف إلى ذلك تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني.
وتضيف الخبيرة دانيان، في تحليل على موقع معهد بيترسون: "بعد مرور قرابة عام على تنفيذ سياسة رفع الفائدة وتباطؤ النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة لم يتراجع معدل التضخم إلا بنسبة ضئيلة عن مستوياته المرتفعة".
من جانبها، ترى الخبيرة بالمعهد نفسه كارولين فريند أن الطلب الاستهلاكي المرتفع في الولايات المتحدة على السلع المستوردة رفع معدل التضخم.
كما أشارت في تحليل على موقع معهد بيترسون للدراسات الاقتصادية، إلى أن النقص في بعض السلع الاستهلاكية وتأخر وصول بعض البضائع المستوردة بسبب الشحن إلى الموانئ الأميركية أدى إلى ارتفاع معدل التضخم.
في هذا الشأن، يقول خبراء: صحيح أن تشديد السياسة النقدية يقود إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض وانخفاض أسعار الأصول، وبالتالي يمنع الأسر والشركات من الاقتراض والاستثمار، ويضعف تلقائياً المبيعات وقدرة الشركات على رفع الأسعار، كما يقلل من فرص حصول العمال على زيادات في الرواتب.
وهذه العوامل يفترض أن تقود إلى تراجع التضخم. لكن على صعيد الواقع، فإن إلغاء المشاريع أو تسريح العمال أو خفض الاستثمار يستغرق بعض الوقت، لأن الشركات ترغب في اتخاذ قراراتها بعد التيقن من المستقبل الاقتصادي، كما أن بعض المستهلكين سيتابعون عمليات الشراء التي خططوا لها منذ فترة طويلة، مثل شراء سيارة جديدة أو مطبخ أو بعض السلع المعمرة. وبالتالي هنالك أخطار وافتراض أن السياسة النقدية وحدها ستقود إلى تراجع التضخم.
وبالتالي هنالك قلق عالمي من قبل مؤسسات بحثية ومالية واقتصادية دولية من سياسة التشديد النقدي المتواصلة التي ربما تؤدي إلى كساد اقتصادي عالمي ويبقى التضخم خلال العام المقبل أو العامين على مستوياته الحالية المرتفعة.
على صعيد الخسائر الاقتصادية التي ربما تؤدي إليها سياسة تشديد السياسة النقدية المتواصلة إلى جانب الركود الاقتصادي العالمي وانهيار سوق الصرف العالمي وسط تدهور عملات الدول الناشئة والأوروبية، هنالك مخاطر من انهيار سوق المال الأميركي الذي يعيش في الوقت الراهن حالة من الاضطراب، وخسر منذ بداية العام وحتى الآن نحو 13 تريليون دولار، حسب بيانات نشرتها وكالة "بلومبيرغ" يوم الأحد.
ورغم أن العديد من خبراء الاقتصاد يعتقدون أن ارتفاع معدل التضخم حدث كنتيجة طبيعية لسياسات التحفيز الكمي التي مارسها مصرف الاحتياط الفيدرالي خلال فترة جائحة كورونا لإنقاذ الاقتصاد والشركات الأميركية من الإفلاس. ووسعت سياسة التحفيز الكمي من الكتلة النقدية بمستويات غير مسبوقة حيث ضخ البنك المركزي الأميركي نحو 5 تريليونات دولار في السوق.
وبالتالي فإن منظور أن الفيدرالي سيتمكن ببساطة من خفض معدل التضخم عبر تشديد السياسة النقدية وسحب هذه السيولة من السوق كحل لأزمة الغلاء يبدو فيه الكثير من التبسيط لمشكلة معقدة.
فهنالك أزمة تراكم الديون السيادية، وارتفاع سعر الفائدة على السندات، وزيادة أزمات الكتلة الأوروبية تحت الضغوط الاقتصادية المستمرة على الاقتصادات الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا، كما أن هنالك مخاطر من صعود التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة التي ربما تركب على أمواج الأزمات الاقتصادية للوصول للحكم في أوروبا.
وفي أولى الإشارات الحمراء إلى المستقبل القاتم في أوروبا، أظهر مسح "ستاندرد آند بورز جلوبال/ ماركيت"، الصادر أمس الاثنين، لمؤشر مديري المشتريات المركب الذي يقيس النشاط في شركات الخدمات والتصنيع بمنطقة اليورو انخفاضاً كبيراً، كما تراجع مؤشر مديري المشتريات الخدمي وكذلك التصنيعي.
في هذا الصدد، قال كبير اقتصاديي الأعمال لدى "ستاندرد آند بورز غلوبال ماركت إنتليجينز" كريس ويليامسون : "يبدو أن اقتصاد منطقة اليورو على وشك الانكماش في الربع الرابع نظرًا للتراجع الكبير في الإنتاج وتدهور مستويات الطلب في أكتوبر/ تشرين الأول، وهو ما يعزز التكهنات بأن الركود يبدو حتميًا بشكل متزايد".
صحيح أن التوسع في الكتلة النقدية أدى إلى وجود كميات ضخمة من الدولارات في السوق الأميركي، وهذه الدولارات باتت تطارد كمية محدودة من السلع المعروضة في السوق، ولكن هذا المنظور يمثل وجهة واحدة من أوجه مشكلة التضخم التي تهدد العالم بالكساد.