ترتبط حياة المواطن العربي بكل ما يحدث في الاقتصادات الكبرى، معدل التضخم هو أحد المؤشرات التي تنعكس مباشرة على مصالح القاطنين في الدول العربية ومستويات معيشتهم.
أسباب الترابط مختلفة، لكن أهمها يتعلق بحجم انكشاف عدد كبير من الدول العربية على الأسواق الخارجية، خاصة الواردات من الدول الكبرى التي تواجه اليوم معدلات تضخم مرتفعة.
مثلاً، سجل التضخم العام في بريطانيا في مارس/ آذار 10.1%، فيما بلغ تضخم أسعار المتاجر في بريطانيا 9% هذا الشهر، وهي ذروة جديدة لمؤشر بدأ في 2005، بحسب ما أفاد به اتحاد التجزئة البريطاني، اليوم الثلاثاء. في المقابل، أكد البيان الصادر عن القمة الاقتصادية العربية البريطانية الثانية التي عقدت في لندن نهاية العام الماضي أن الصادرات البريطانية إلى الدول العربية حققت 28 مليار جنيه في العام 2021، ما يعني ارتفاع كلفة استيراد السلع من بريطانيا في ظل تصاعد الأسعار هناك.
لا بل وصلت قيمة فاتورة استيراد الدول العربية من الأغذية إلى نحو 100 مليار دولار سنوياً، وفق تقرير قطاع الشؤون الاقتصادية بجامعة الدول العربية في مايو/ أيار من العام الماضي. فيما تشرح المنظمة العربية للتنمية الزراعية في تقرير صادر في العام 2021 أن الدول العربية تستورد من الخارج نحو 57 % من احتياجاتها من القمح، ونحو 66 % من احتياجاتها من الذرة الشامية، و65 % من السكر، ما يؤدي إلى انعكاس التضخم في الدول المصدرة على واقع الأسعار التي تعصر القدرة الشرائية للمواطن العربي.
وتشرح المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات في تقريرها الأخير في العام 2021، أن حجم الواردات السلعية العربية يبلغ 845 مليار دولار، وأهم الدول الموردة إلى الدول العربية هي الصين والولايات المتحدة الأميركية والهند وألمانيا، فيما حصة المواد الغذائية من الواردات تصل إلى 14%.
ما هو التضخم؟
يشرح موقع شركة "ماكنزي" الاستشارية الدولية، أن التضخم هو ارتفاع واسع في أسعار السلع والخدمات، مما يؤدي إلى تآكل القوة الشرائية لكل من المستهلكين والشركات. ولفهم آثار التضخم، خذ عنصراً شائع الاستهلاك وقارن سعره من فترة بأخرى. على سبيل المثال، في عام 1970، كان متوسط تكلفة فنجان القهوة 25 سنتاً؛ بحلول عام 2019، قفز إلى 1.59 دولار.
لذلك مقابل 5 دولارات، كنت ستتمكن من شراء حوالي ثلاثة فناجين من القهوة في عام 2019، مقابل 20 فنجاناً في عام 1970. هذا هو التضخم، ولا يقتصر على ارتفاع الأسعار لأي عنصر أو خدمة واحدة؛ يشير إلى الزيادات في الأسعار عبر قطاع ما، مثل تجارة التجزئة أو السيارات، وفي النهاية، اقتصاد البلد.
في الاقتصاد السليم، يشرح موقع "ماكنزي" يكون التضخم السنوي عادة في حدود نقطتين مئويتين، وهو ما يعتبره الاقتصاديون إشارة إلى استقرار الأسعار. وعندما يبدأ التضخم في تجاوز نمو الأجور، يمكن أن يكون علامة تحذير على الاقتصاد المتعثر.
ويلفت إلى أنه خلال فترات التضخم تفقد الأسر أو المستهلكون القوة الشرائية عندما تزداد أسعار المواد التي يشترونها، مثل الطعام والبنزين. كذا تفقد الشركات قوتها الشرائية، وتخاطر برؤية هوامشها تنخفض، عندما ترتفع أسعار المدخلات المستخدمة في الإنتاج، مثل المواد الخام. واستجابة لذلك، تقوم الشركات عادة برفع أسعار منتجاتها أو خدماتها لتعويض التضخم، مما يعني أن المستهلكين يمتصون هذه الزيادات في الأسعار.
تأثيرات على الأسعار
وبالتالي، عند ارتفاع تكاليف الإنتاج في الدول الكبرى بسبب التضخم، تزداد تكاليف السلع المستوردة من جانب الدول العربية خاصة التي تعتمد بشكل كبير على وارداتها من الدول الكبرى. كذا، إذا كان هناك تضخم في الدول الكبرى، فمن المحتمل أن تتراجع قيمة عملتها مقابل العملات الأخرى. هذا قد يؤدي إلى تقلبات في سوق العملة العالمية، وبالتالي يمكن أن يؤثر على قيمة العملات العربية ويؤدي إلى ارتفاع تكلفة الواردات.
وهناك وجه آخر لارتفاع التضخم في الدول الكبرى، حيث إنها تعتبر من المراكز الأساسية لتقديم المساعدات والمنح للدول العربية التي تواجه أزمات اقتصادية، وكلما ازداد حجم التضخم في الدول المركزية تتزايد احتمالات انخفاض قيمة هذه المساعدات.
وتشرح منظمة "بروكنغز" البحثية الأميركية أنه بالنسبة للعديد من الأسر، يشكل ارتفاع التضخم العالمي تحدياً كبيراً. يمكن أن تؤدي الأسعار المرتفعة إلى تآكل قيمة الأجور والمدخرات الحقيقية، مما يجعل الأسر أكثر فقراً.
لكن هذه التأثيرات ليست متساوية، إذ تميل الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط إلى أن تكون أكثر عرضة للتضخم المرتفع من الأسر الأكثر ثراءً. يعكس ذلك تكوين دخلها وأصولها وسلالها الاستهلاكية. وغالباً ما تفتقر الأسر الفقيرة إلى الوصول إلى المنتجات المالية التي يمكن أن تحميها من التضخم، لأن هذه المنتجات يمكن أن تكون لها تكاليف أولية أو مستمرة وبالتالي لا يمكن تحملها.
باختصار، يميل التضخم المرتفع إلى تفاقم عدم المساواة أو الفقر لأنه يؤثر على الدخل والمدخرات بشكل أكبر بالنسبة للأسر الفقيرة أو متوسطة الدخل مقارنة بالأسر الغنية. يمكن إعادة الأسر التي نجت من الفقر أخيراً إلى الفقر مجدداً بسبب ارتفاع التضخم.
كذا، تلفت مدونة "إيكونوميكس هيلب" في تقرير عن تأثير التضخم في الاقتصادات النامية إلى أن التضخم يخفض القوة الشرائية للمال وقيمة المدخرات وسعر الصرف، ويزيد قلة اليقين بالنسبة للشركات في التعامل مع الأسعار المتغيرة.
كما يؤدي ارتفاع التضخم العالمي إلى ارتفاع أسعار الفائدة وزيادة تكلفة سداد الديون في البلدان منخفضة الدخل، وكذا يسبب التضخم في الاقتصادات النامية انخفاض سعر الصرف وتدفقات رأس المال الخارجة والتي قد يكون من الصعب استقرارها.
ويشرح أكثر أنه في الغرب، إذا ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 10%، فقد لا يبدو هذا كارثياً للغاية، ولكن بالنسبة للأشخاص ذوي الدخل المنخفض جداً، يمكن أن تصل أسعار المواد الغذائية إلى أكثر من 70% من إجمالي استهلاكهم.
ارتفاع أعداد الفقراء
ويشير البنك الدولي في تقرير في العام 2011 إلى أنه "على مستوى الاقتصاد الجزئي، يشعر الفقراء بارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل أكثر حدة، حيث إنهم مشترون صافون للغذاء ويتم إنفاق حصة غير متكافئة من دخلهم (الثلثين في البلدان منخفضة الدخل) على الغذاء. من خلال هذه القنوات، يؤدي ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى زيادة الفقر وتقليل التغذية وتقليص توفير الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية".
ويلفت التقرير إلى أن البلدان النامية ذات الديون الخارجية المرتفعة تواجه تكلفة كبيرة لسداد فوائد الديون في ظل ارتفاع التضخم العالمي، حيث تتصاعد أسعار الفائدة مع مساعي البنوك المركزية إلى تهدئة الضغوط التضخمية. يمكن أن تكون أسعار الفائدة المرتفعة ضارة بشكل خاص للاقتصادات النامية التي تواجه مدفوعات فوائد ديون كبيرة.
كذا، فإن التضخم المرتفع يجعل الطلب على السلع والخدمات أقل جاذبية، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب على العملات المحلية. مع انخفاض سعر الصرف، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تدفقات رأس المال إلى الخارج، حيث يسعى المستثمرون إلى حماية قيمة أصولهم. يمكن أن تتسبب تدفقات رأس المال الخارجة هذه، بدورها، في مزيد من التراجع في الثقة ومزيد من الضغط على سعر الصرف.
وقال صندوق النقد الدولي في تقرير العام الماضي، إن التضخم المرتفع يعد أحد أكثر الآثار المباشرة لارتفاع أسعار السلع الأساسية. وشكلت أسعار المواد الغذائية نحو 60 في المائة من الزيادة في التضخم العام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي.
ويشرح أن ذلك ليس مفاجئاً نظراً للاعتماد الكبير للعديد من الاقتصادات في المنطقة على شحنات الغذاء الأجنبي (حوالي خمس إجمالي الواردات)، والوزن الثقيل للغذاء في سلال الاستهلاك (أكثر من الثلث في المتوسط) وحتى أعلى في حالة البلدان منخفضة الدخل.
فيما لفت تقرير البنك الدولي عن "ارتفاع معدل التضخم وأثره على أوضاع الفقر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" الصادر العام الماضي، إلى أن حصة المواد الغذائية من الموازنة تشكل أكثر من 30% في جيبوتي والجزائر والمغرب ومصر، ويؤثر هذا تماماً على ميزانيات الأسر الأشد فقراً في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع ارتفاع التضخم. وقد تنشأ أيضاً آثار غير مباشرة على الاستهلاك جراء زيادة أسعار السلع أو المواد الأولية مثل منتجات الطاقة والوقود الذي يستخدم في السلع النهائية التي تستهلكها الأسر.
وأشار إلى أنه مقابل كل زيادة قدرها 1% في أسعار المواد الغذائية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قد يصبح نحو نصف مليون شخص إضافي في عداد الفقراء في المنطقة.