هكذا قتل الأسد حرّاس كرسيه

14 مايو 2022
إنتاج سورية من القمح يتناقص (Getty)
+ الخط -

ويلات لنظام الأسد، وليس ويلا واحدا يا جبران خليل جبران، فحكومة الأسد لا تأكل مما تزرع ولا تشرب مما تعصر ولا حتى تلبس مما تنسج. ولتكتمل دائرة الويلات لخنق السوريين وإبعاد أي بارقة أمل عن مستقبلهم ولا حتى العودة إلى بعض ما كان عليه ماضيهم قبل احتلال هذه العصابة السلطة، جاء تهديم الصناعة والإجهاز على الزراعة.

ربما أهم ثروات سورية، عدا طاقتها البشرية فوق الأرض، والفوسفات والغاز والنفط تحتها، هي الزراعة. فسورية التي لا تزيد مساحتها على 185 ألف كيلومتر مربع، كانت تصدر القمح، وقت استقر إنتاجها على نحو 4 ملايين طن خلال تسعينيات القرن الماضي، وكانت سورية تصدر الحمضيات حين تعدى إنتاجها المليون طن، بل واتهمت سورية يوماً، مطلع الألفية، بإغراق قطنها ونسيجها أسواق مصر ودول الاتحاد الأوروبي، وقت فاق الإنتاج مليون طن قطن خام واخترقت الغزول السورية دول الإقليم وأوروبا.

وأما فاكهة سورية وخضرها، فكانت، ولم يزل ما تبقى منها، موضع غزل وتشهٍ، فتنوع المناخ وخصوبة التربة وحرفية المزارع السوري، جعلت من المنتجات الزراعية، المطلب المستمر وجوكر الصادرات الرابح على الدوام.
بيد أن كل ذلك "كان" والواقع اليوم، بعد الإنجازات المستمرة للنظام الممانع، حوّل سورية لمستورد، حتى لأبسط غذاء مستهلكيها ولباسهم وشرابهم.

فبلد ملايين رؤوس الأغنام الشامية الشهيرة، يستورد اليوم لحوماً مجمدة مشكوكاً بسلامة استهلاكها بشرياً، وموطن أول زراعة قمح، يستجدي أوروبا بعد توقف الشحنات الروسية، ويتوسل مصر والصين، ولو بأرزّ من النوعيات الرديئة، وبلد المليون طن قطن وصناعات النسيج والألبسة، الذي فاز بإلباس لاعبي مونديال كأس العالم يوماً، بعد أن اختارت ملكة بريطانيا، إليزابيث الثانية عام 1947، ثوب زفافها من البروكار الدمشقي، تغزوه الألبسة المستعملة "البالة" وما يرفضه مستهلكو العالم أو توزعه الجمعيات الخيرية.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

ربما تصح الأعذار حول تهدم الصناعة أو تقبل المبررات حول تراجع الصادرات، بيد أنّ فقدان نقطة قوة الزراعة، للحد الذي رفع أسعار الغذاء 800% خلال عامين، هو ما لا يقبل أي نقاش، خاصة بعد أن عرّت الحرب الروسية على أوكرانيا مخازين العالم، وأعادت للزراعة الأولوية والصدارة، حتى على التكنولوجيا وصناعة تدوير المال والخدمات.

فنظام الأسد، والابن بشار خاصة، وبعد رعايته تعدي الحجر على المزروعات والشجر لغايات سياسية، انتهج أسلوب تصحير أراضي الجزيرة السورية، فهجّر فلاحي القرى والمزارع إلى المدن، قبل أن يتمم حلم التجويع وقتل الزراعة اليوم، عبر رفع أسعار مستلزمات الإنتاج (بذار، أسمدة، عمالة) إلى ضعف أسعار المنتجات الزراعية.

وليأخذ الطرح منحى المنطق والعلمية، ونبتعد عن المجانية بالاتهام، يقدر خبراء الزراعة في سورية أنّ تكلفة زراعة الدونم بالقمح اليوم، تبلغ نحو 700 ألف ليرة، في حين لم تكن تزيد، وقت ورث بشار الأسد كرسي أبيه عام 2000، عن 10 آلاف ليرة سورية.

بمعنى، ليؤمن فلاح سوري تكاليف زراعة 40 دونماً "متوسط الملكية" فهو بحاجة إلى 28 مليون ليرة، ولأنّ أقنية دعم وإقراض المزارعين مغلقة في سورية الأسد، فثمة حلّان أمام الفلاح.

الأول أن يقترض من القطاع الخاص بنسبة فوائد تصل إلى نحو 60% سنوياً، أو يهجر الزراعة ويبوّر الأراضي... وللأسف الحل الثاني هو الغالب على خيارات السوريين، بعد أن استحال تأمين البذار والأسمدة وارتفعت تكاليف الإنتاج والأيدي العاملة. وكل ذلك مقابل تسعير حكومي قسري للقمح، لا يصل إلى مستوى تكاليف الإنتاج.

ولعل بالحرب الدائرة اليوم، بين الحكومة التي تسعى لزيادة خسائر الفلاحين، عبر تسعير كيلو القمح بـ2000 ليرة، وبين اتحاد الفلاحين الذي يطالب بسعر لا يقل عن 2500 ليرة، دليل واضح على مرامي الأسد، بالإجهاز على ما تبقى من الزراعة وتطفيش من لم يزل يتشبث بأرضه.

ولعل ما سيق عن القمح، ينسحب على زيت الزيتون والزراعة بشقها الحيواني (أغنام وأبقار ودواجن) ويزيد خلال الحديث عن الحمضيات وبدء تراجع هذه الثروة في سورية، بعد أن تركت الحكومة الفلاحين، ضحايا بمرمى التجار وامتنعت عن تشييد معمل عصائر، معروضة دراسته وجدواه منذ عشرات السنين.

قصارى القول: ربما لم تقتصر حرب الأسد على سورية، تاريخاً وشعباً وثروات، على القطاع الزراعي، فلقطاع التعليم على سبيل المثال، حصة من الاستهداف، قد تكون عقابيلها مستقبلاً، أكثر خطراً واستراتيجية من وأد الزراعة.

فإن علمنا أنّ الإنفاق الحكومي على قطاع التعليم، في آخر موازنة سورية، قد تراجع إلى ربع ما كان عليه عام 2010، فحينها نعلم، أو نتوقع على الأقل، أي مصير أسود ينتظره السوريون.

إذ ورغم بيانات الأمم المتحدة، أنّ 18% من الأطفال السوريين غير ملتحقين بالمدارس، وأنّ نصف الأطفال غير الملتحقين بالمدارس لم يسبق لهم أن دخلوا إليها في حياتهم أبداً. خصصت الحكومة في موازنتها العامة للعام 2021 إنفاقاً تقديرياً على خدمات التربية والتعليم بلغ 516 مليار ليرة سورية.

وكما جرت العادة، فإنّ أرقام الإنفاق التقديرية التي لا تنفك الحكومة تتحدث عن ارتفاعها بالليرة السورية لا تلبث أن يتبيّن مقدار تضاؤلها بمجرد حسابها بالدولار، فمن ينظر إلى أرقام الإنفاق التقديري التي "ارتفعت" من 85,6 مليار ليرة سورية في عام 2010، إلى 150,6 مليار ليرة في عام 2015، ثم إلى 516 مليار ليرة في موازنة العام 2021، يسهل أن يخرج باستنتاج أن الإنفاق التقديري قد ارتفع فعلياً، لكن الأرقام ذاتها انخفضت بشكل متسارع من 1,7 مليار دولار في 2010، إلى 669 مليون دولار في 2015، وصولاً إلى مجرد 411 مليون دولار في عام 2021 وذلك وفقاً لسعر صرف الدولار لدى مصرف سورية المركزي، وليس لسعر السوق.

بالخلاصة، تراجعت حصة التربية والتعليم العالي من الإنفاق التقديري للحكومة في عام 2021 إلى نحو 24% من الحصة ذاتها في موازنة العام 2010. ما يعني أنّ 75% من الإنفاق الحكومي على التربية والتعليم، قد تم سحبه خلال 11 عاماً.

ومشوار تهديم سورية العمدي، طاول في ما طاول، الصناعات التحويلية، ذاك القطاع الواقي خلال الأزمات والرابح عبر الاستفادة من القيم المضافة، فضلاً عن دوره التسويقي للبلد الصانع، وليس للمنتج فقط.

وبلغة الأرقام مرة ثانية، نرى أنّ الإنفاق الحكومي على قطاع تحويل المواد الأولية إلى منتجات وسيطة أو سلع نهائية، تراجع من 543 مليون دولار عام 2003 إلى 105 ملايين دولار عام 2012 ليتهاوى خلال موازنة 2021 إلى 27 مليون دولار.

أي، خلاصة أخرى، تراجع الإنفاق على قطاع كان يساهم بالناتج المحلي الإجمالي بنحو 6,7% خلال عشرين عاماً، إلى 4.9% مما كان عليه مطلع الألفية، وقت ورث بشار الأسد كرسي أبيه.

نهاية القول: لا حرّاس ربما، لكراسي حكومات الدول الديمقراطية، كما كفاية الشعب عبر الزراعة والصناعة، كما لا ضمان لمستقبل أي بلد، إلا من خلال التعليم والتأسيس لأجيال تتابع التنمية والتطورات.

لكن الأنظمة المستبدة التي تحكم المزارع، لا ترى من طريقة للاستمرار، إلا عبر القمع والتفقير والإذلال، فتسعى أول ما تسعى، إلى قتل حرّاس كراسيها لتأتي بتابعين وهياكل، يفرضون بقاءها عبر الشعارات والاستقواء والتوريث.

المساهمون