أسهمت معظم الأزمات السياسية والأمنية في العراق بعد الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003 في زيادة هجرة الشباب العراقي، هرباً من الحرب تارة، وللبحث عن فرص عمل في تخصصاتهم تارة أخرى. وما يزيد من حدة هذه الظاهرة سيطرة الأحزاب والفصائل المسلحة على التعيينات في الوزارات والدوائر الحكومية، ضمن منهج المحاصصة المعمول به في البلاد، وهو ما يقلل من فرص انخراط الشباب العراقي في القطاعات التي تتوافق مع اختصاصاتهم العلمية والمهنية.
ولا تقتصر الاختصاصات العراقية المهاجرة أو التي تنوي الهجرة على مجالات محددة، بل تشمل مختلف الاتجاهات العلمية، خاصة الأطباء والمهندسين والمعلمين والإداريين والمتخصصين بالعلوم المصرفية والمحامين والعاملين في قطاع الفندقة، وصولاً إلى الصحافيين والناشطين في مجال حقوق الإنسان. الكل يبحث عن فرص للخروج من العراق وعادة ما يكون الهدف دول الخليج أو الاتحاد الأوروبي.
ويؤكد مراقبون ومتخصصون بالاقتصاد أنّ هجرة الشباب المتخصصين تتسبب بخسارات كبيرة للبلاد من الناحية الاقتصادية والتقدمية، إذ يكون ذلك على حساب تولي آخرين غير أكفاء المسؤولية بدلاً منهم، مؤكدين أنّ شريحة الشباب تمثل الأغلبية من مجموع المهاجرين سنوياً.
نزيف مستمر
ويشير مسؤول في وزارة الهجرة العراقية لـ"العربي الجديد"، بشرط عدم ذكر اسمه، إلى عدم وجود إحصاءات دقيقة لأعداد اللاجئين العراقيين في الخارج، لكنه يؤكد أن نزيف الطاقات في تزايد مستمر. ويشرح أنّ تقديرات تلفت إلى أنّ "عدد العراقيين المهاجرين تجاوز نصف مليون عراقي قبل عام 2003، ليرتفع حالياً إلى نحو 5 ملايين خارج البلاد، أغلبهم غادر بحثاً عن الأمن وفرص العمل" ويؤكد المسؤول أنّ "الأعداد الدقيقة والمركزية غير متوافرة، لأنّ الهجرة، سواءً للعوائل أو الشباب، مستمرة، مع العلم أنّ الغالبية هم من الشباب الخريجيين، وأغلبهم يلجؤون إلى أوروبا وأميركا ودول الخليج العربي وتركيا إضافة إلى دول المنطقة الأخرى مثل الأردن ومصر وغيرهما من الدول".
ويقول وزير العمل العراقي السابق محمد شياع السوداني لـ"العربي الجديد" إنّ "الشباب العراقي يمثل الشريحة الكبرى في البلاد، لكنّها شريحة مهمشة بفعل الأخطاء الحكومية والسياسية التي أدت بشكلٍ أو بآخر إلى دفع الشباب للتظاهر والاحتجاج والهجرة والضياع"، معتبراً أنّ "الإخفاقات باستقطاب الشباب، وإشراكهم في سوق العمل، والاستفادة من خبراتهم لتعزيز الاقتصاد العراقي، دفعتهم إلى التفكير باللجوء إلى دول أخرى، بحثاً عن حياة أفضل وبناء مستقبل لهم".
ويلفت إلى أنّ عموم الأحزاب التي تتشارك السلطة في البلاد تتحمل مسؤولية تراجع المستوى الأمني والاقتصادي وغياب الحلول الواضحة لحلّ هذه المشاكل". ويعتبر أنّ هجرة الشباب العراقي تكبد البلاد، بطبيعة الحال، خسائر اقتصادية وطاقات مهمة.
مسؤولية الأحزاب
أما القيادي في تيار "الحكمة" علي البديري، فيشدد على أنّ "الاقتصاد العراقي يتصدع مع الخروج المستمر للكفاءات، إضافة إلى الفشل الحكومي الذي تتشاركه كلّ الأحزاب في البلاد"، موضحاً لـ"العربي الجديد" أنّ "الشباب العراقي بات يعاني من عدم قدرته على التحكم بمستقبله، خصوصاً مع تزايد البطالة واختلال الاختصاصات في سوق العمل، وتراجع المستوى المعيشي".
ويتابع أنّ "هناك حوادث كثيرة تدفع الشباب إلى الهجرة، ومنها ما يصادفنا يومياً، مثل مشاهد تقدم المهندسين إلى دورات الشرطة، وقيام متخصصين بالعلوم المالية والمصرفية بالعمل في محطات الوقود بأجور زهيدة، بالتالي، فإنّ غياب السياسة الواضحة لاستقطاب الأعداد الكبيرة من خريجي الجامعات والمتخصصين في مجالات العلوم والطاقة والفنون والاقتصاد، سيؤدي إلى تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ويزيد من الهجرة".
من جانبه، يبيَّن الناشط العراقي محمود النجار، أنّ "العراق يعاني من هجرة شبابية واسعة، طيلة السنوات الماضية وأنها بدأت في عام 2005، وتصاعدت كثيراً خلال أعوام اجتياح تنظيم "داعش" لمناطق شمال وغرب البلاد، لكن بالعموم، فإن أبرز الأسباب تتمثل بالوضع الأمني، وعدم وجود فرص العمل للخريجين من الشباب، إضافة إلى عدم وجود الحرية الكافية لفسح المجال أمام الشباب ذوي التخصصات المهمة من فتح مشاريعهم الخاصة، إذ إنهم عادة ما يصطدمون بعقبات تضعها جهات حكومية وغير حكومية، منها قانونية وأخرى أمنية".
ويؤكد النجار في حديثٍ مع "العربي الجديد" أنّ "القطاع العام والحكومي يخضع لسيطرة الأحزاب الحاكمة المتنفذة في البلاد التي تسببت بفساد مستشر وحصر التعيينات وفرص العمل عند جماعات محددة، ما تسبب بإحباط كبير للشباب العراقي، منهم العلماء وأصحاب الشهادات العليا، مما اضطرهم إلى الهجرة التي تؤثر على القطاعات الاقتصادية المختلفة".
سياسات خاطئة
بدوره، يرى الخبير الاقتصادي العراقي عبد الرحمن المشهداني أنّ "العراق الذي يعاني من مشاكل اقتصادية جرّاء السياسات المالية الخاطئة والسرقة واختلاس الأموال من قبل أحزاب متهمة بالفساد، يقع في مشاكل اقتصادية متلاحقة ومترابطة، حيث البطالة والفقر واحتكار الوظائف تدفع الشباب العراقي المتخصص والدارس إلى الهجرة والبحث عن أسواق عمل في بلدان عربية وأجنبية". ويضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "الحكومات العراقية مسؤولة عن هجرة الأدمغة والعقول والمتخصصين في مجالات الاقتصاد والطب والهندسة، وهي بذلك تحرم العراق من كفاءات مهمة، ولو أنّ الحكومات تعتمد على الخريجين العراقيين من الكليات العملية لما احتاجت في كثير من الأحيان إلى استيراد الخبراء من الخارج".
ويلفت إلى أنّ "الحكومات العراقية حرمت نفسها من ادخار مليارات الدولارات من خلال إغلاق المعامل والمصانع، واعتمدت بشكل شبه كلي على الاستيراد بالتالي فإنها فاقمت المشكلات الاقتصادية والديون وحرمت الشباب العراقي من حق العمل".
ويعتبر أن "بعض الدول العربية والغربية أسست سياسات جيدة لاستقطاب الكفاءات العراقية، وأسهمت هذه السياسات بهجرة المهندسين والأطباء والحرفيين والعلماء في مجالات الطاقة والفلك، بل حتى الأساتذة والمعلمين والصحافيين والفنانين".
ويكشف إحصاء صدر في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، عن البنك الدولي، أنّ "مستوى البطالة في العراق ينذر بتفاقم حالة سخط شعبي قد يقود إلى احتجاجات مماثلة للاحتجاجات العارمة التي اندلعت عام 2019 وأدخلت البلاد في أزمة كبيرة".
فيما اعتبرت وزارة التخطيط العراقية أن ارتفاع البطالة جاء بسبب الانكماش المالي الذي سببته جائحة كورونا، مبينة أنّها "تعمل على الانتهاء من إتمام مسح لسوق العمل العراقية، ومن المتوقع أن يقدم مؤشرات جديدة عن البطالة والفقر".