نحن الحكومة... فوق الشعب!

28 فبراير 2022
الغلاء يحيط بالمواطن المصري وسط زيادة متواصلة في الأسعار (getty)
+ الخط -

رغيف الخبز، أصبح نقطة البداية ومنتهى حوار المصريين في جلساتهم، وتواصلهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي خلال الآونة الأخيرة. يعكس اهتمام الناس بالخبز، قيمته عند 80% من المصريين، غير القادرين على تناول وجبة صحية، ولا يقدرون على الحياة بدونه، باعتباره المكون الأكبر لوجباتهم اليومية.

فيكفي أن تناوله يوفر 33% من السعرات الحرارية، و45% من البروتين التي يحتاجها الفرد، وفقا لدراسة ميدانية لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة" فاو".

وليس غريبا أن يسمي العامة رغيف الخبز بـ "العيش". ورغم سوء حالته، وتخفيض وزنه عدة مرات، إلا أنه مازال يحتفظ بكبريائه وقيمته في حياة الأغلبية الساحقة التي تتلقفه، عبر بطاقات الدعم التمويني.

الغلاء يحيط بالمواطن من كل جانب، والزيادات في الأسعار، طاولت جميع السلع والخدمات، وفقا لآخر إحصاء أصدره الجهاز المركزي للإحصاء منتصف فبراير الجاري.

أظهرت الإحصاءات، ارتفاع أسعار الأطعمة والمشروبات، بنحو 14% في يناير 2022، عن الشهر المماثل له عام 2021، وسعر القهوة 57% والسكر والشاي والأغذية السكرية 19% والزيوت والدهون، 34.8% والخضروات 17.1% والألبان والجبن والبيض، 14.7% واللحوم والدواجن 11.5%.

تطول اللائحة الرسمية، لتشمل كل مشروب أو غذاء أو سلعة استهلاكية أو معمرة، في الأسواق أو خدمة تقدمها الدولة والقطاع الخاص، مع ذلك فأعلى الأرقام المذكورة رسميا، تبدو أقل كثيرا، إذا ما قورنت بما يدفعه أرباب الأسر، بمراكز البيع بالأرياف أو المدن.

الغلاء الفاحش، أصاب الناس بحالة من القلق، وعدم اليقين في المستقبل، بما تركه من ضغوط شديدة على الجميع، في حياتهم اليومية. فموجات الغلاء، لم تتوقف طوال السنوات الماضية، وتزيد الأمور سوءًا، وفشلت المسكنات التي يدفع بها النظام الناس، إلى تقبل المزيد من الآلام لعبور مراحل الخطر، التي يصورها على أنها عقبات مؤقتة في طريقه، لتحقيق الاستقرار والأمن والرفاهية.

مع تصاعد الأزمة، وقف الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، ليعلن في أول اجتماع موسع من مقر الحكومة الجديدة، بالعاصمة الإدارية، استحالة استمرار الحكومة، في دعم رغيف الخبز بسعره الحالي.

يبرر "مدبولي" القرار، الذي سيعلنه خلال أسابيع، بأن تكلفة الرغيف زادت من 17 قرشا، عند تسعيره بخمسة قروش، عام 1988، لتصل حاليا إلى نحو 65 قرشا، ملوحاً بأن هناك ضغوطا وراء القرار، بعضها خارجية، بسبب ارتفاع أسعار البترول والشحن والقمح عالميا، وأخرى بسبب ارتفاع المخصصات السنوية، لدعم الخبز والحبوب، التي بلغت 87 مليار جنيه سنويا.

قال مدبولي: "استحالة أن نستوعب كل زيادة تلك الأسعار وحدنا، نحاول تحمل جزء، وعلى المواطن أن يتحمل جزءًا من فاتورة التضخم"!

كلمات رئيس الوزراء التلقائية، تبين الهوة الواسعة، بين الناس والمسؤولين عنهم بالدولة. فهناك: نحن الحكومة، وبعيدا.. هناك: المواطن. فالحكومة لا تعكس إرادة الشعب، الذي نسيت حكومتهم في غمرة القمع، أن قطار الغلاء يدهسهم من كل جانب، مع ندرة فرص العمل، للأبناء أو العاطلين، الذين يواجهون قسوة العيش، مع فقدان وظائفهم في قطاعات كثيرة، مثل السياحة والتشييد والبناء، بسبب الكوارث الأمنية أو الصحية، والركود.

يشعر مدبولي أنه يقود حكومة فوق الشعب، وليست خادمة له، وعليها أن تلتزم بأولوياته. فالشعب لم يعد له قيمة في ظل اختيار برلمان مهندس أمنيا، لا يعكس رغبات الناس وتطلعاتهم.

والشعب محروم من حرية تداول المعلومات، والرقابة على صرف أمواله، والإعلام القادر على ابراز همومه اليومية.

باسم الأزمات، مفروض على المواطن التنازل عن حريته، والإنصات للأخبار المضللة، خاصة أسعار السلع، التي تنشرها الصحف الرسمية يوميا، بأقل من نصف قيمتها الموجودة في الأسواق.

ليس غريبا أن ينتقل إحباط الناس إلى الـ"سوشيال ميديا"، وأن تصل همهمات النخبة الصامتة والمعزولة عن الجمهور، عبر فيسبوك وتويتر، لأنها لم تعد قادرة على الحفاظ على مكاسبها الذاتية. فالغلاء يمتص ما حققوه من مميزات، فهناك تهديد للطبقة الوسطى، بأن تنزل إلى القاع الذي يضم نحو 60% من أفراد الشعب المصري، وفقا لقيمة الدخل الشهري للفرد، كما يحددها البنك الدولي.

وهناك توقع من البنك الدولي والمؤسسات المالية الكبرى بأن تواصل موجة الغلاء في مصر صعودها لعامين قادمين، على الأقل، بما يؤكد أن القادم أسوأ.

لا يحتاج المصريون إلى تقارير حكومية، تخبرهم أنهم يدفعون أكثر بكثير مقابل وجباتهم اليومية بسيطة المكونات، ولا سعر ايجارات المنازل، أو البنزين وركوب المواصلات العامة. فكلها شهدت أرقاما قياسية بعد خفض قيمة الجنيه المصري بنسبة 60% عام 2016.

تبشر الحكومة طوال هذه الفترة باقتصاد قوي، بعد عبور أزمة الوباء، ولكن تكرار تلك الوعود، يزيد من خيبة الأمل في المستقبل. فقد نسيت الحكومة أن الدافع الرئيسي للسخط الشعبي قبل ثورة 25 يناير، ارتبط بعدم الرضا عن الأداء الاقتصادي، الذي كان يصل إلى 7% سنويا، بينما الآن لا يراوح 5.5%، وأدى عدم المساواة في توزيع الثروات والدخول، إلى تأجيج مظاهرات" عيش، حرية، كرامة إنسانية"، حتى أطاحت برأس النظام.

كان مصطفى مدبولي مشاركا في النظام السابق، بصفته مستشارا كبيرا للتخطيط، ويعد من أكبر داعمي مشروع جمال مبارك لنقل الوزارات من وسط القاهرة إلى مدينة القاهرة الجديدة، والتي تحولت إلى تابع للعاصمة الإدارية. وها هو الآن يدير جلسات الحكومة من تلك العاصمة، حيث تمنى أن تكون، فلم ينظر إلى أولويات الشعب الكادح والمتعطش إلى لقمة العيش، بل يخدم من يكفل له البقاء في منصبه، بالقوة والاستبداد.

لا يفكر مدبولي في ملايين المصريين الذين يتخذون من الخبز وسيلة لملء البطون الخاوية، بل يركز في تبديد موازنة الدولة على مشروعات أخرى، تحتاج إلى مبالغ طائلة، تخدم القادرين من ذوي شرائح الدخل العليا الذين يمثلون 20% من الشعب، ورجال الأعمال والسائحين.

لم تسقط الحكومة الفقراء من قائمة مشروعاتها الفارهة فقط، بل ذهبت إليه في عقر بيته، لتدفع به نحو المزيد من الفقر، مع رفع أسعار الخبز، بعد أن حددت له من قبل عدد الأرغفة للفرد والأسرة، ورفعت أسعار السلع التموينية البسيطة وتخطط من جديد٬ لزيادة أسعار الوقود والكهرباء والمواصلات.

تكتفي الحكومة بوعد يرفع الحد الأدنى للدخل، لن يصب إلا في مصلحة قلة من العاملين بالقطاع الحكومي، ويلقي معارضة من القطاع الخاص المتأزم بكل موجات الغلاء والوباء.

فالشعب المحبط، يعلم أن العلاوة ستفجر موجة غلاء أخرى، تحدث عادة، في كل مرة تناقش فيها زيادة المرتبات، ونحن مقبلون على مواسم استهلاك كبرى، مع بشائر شهر رمضان وأعياد المسلمين والأقباط.

المساهمون