تواجه الصناعة العراقية أزمات مستمرة، وفقاً للمدير العام للدائرة الفنية في الوزارة، ناصر المدني، الذي يوصف بأنه الصندوق الأسود للصناعة المحلية، إذ أكد في مقابلة مع "العربي الجديد" جملة من العقبات التي تقف أمام تطوير القطاع. وفيما يلي نص الحوار
- بدايةً.. ما عدد شركات وزارة الصناعة المُنتجة وعدد ما تصنعهُ من منتجات؟
بعد عمليات الدمج مع مؤسسات عدة في الدولة، لدينا 32 شركة وهيئة، 28 منها إنتاجية، وهذه الشركات مجتمعة تُصنِّع 575 منتجاً أُضيفت إلى دليل المنتجات العراقية بعد ثبوت جودتها وصُدِّق عليها من قبل الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية التابع لوزارة التخطيط ومجلسي الوزراء والنواب.
ودليل المنتجات العراقية أشبه بقانون، إذ يُضاف إلى الموازنة العراقية لإلزام الوزارات باستخدام تلك المنتجات وفق حاجتها، ويفترض كذلك أنه لا تُستورَد أية مواد مماثلة للمواد الموجودة في الدليل من الخارج إلا بعد اعتذارنا عن عدم توفيرها.
- معامل هذه الشركات هل تعمل بكامل طاقتها، وهل تلبي الحاجة كاملةً؟
للأسف هذه الشركات تعمل بـ50% فقط من طاقتها التصميمية المتاحة، والسبب الرئيس يعود إلى عدم التزام الوزارات وبقية دوائر الدولة والمحافظات شراء منتجات وزارة الصناعة التي أشرنا إليها، رغم وجود نص ملزم في قانون الموازنة، وهذه هي المشكلة الأكبر التي تعاني منها وزارتنا، وهنا ندعو الحكومة وهيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية للتعامل مع هذا الموضوع وعدم السماح لتلك الجهات بتجاهل تطبيق شرط الشراء من الصناعة.
ولو طُبِّقَت التعليمات والقوانين التي تعنى بحماية المنتج الوطني، لارتفع مستوى الإنتاج إلى 100% من طاقة معامل الشركات التابعة للوزارة.
- عدم شراء بعض الوزارات لمنتجاتكم هل يقف وراءه فساد إداري وصفقات؟
معظم معامل وزارة الصناعة أنشئت لخدمة وزارات الدولة، وللأسف هي لا تشتري إلّا جزءاً قليلاً جداً من منتجاتنا، والسبب قد يعود لقيام أذرع في تلك الوزارات بعقد صفقات مع جهات تابعة للقطاع الخاص تتعاون مع شركات خارج البلد تقدم أموالاً مقابل التعاقد معها، وأيضاً السفر لشراء منتجات خارجية يوفر إفادات يتمتع بها مسؤولون، ونحن كجهة حكومية لا يمكننا تقديم ذات المُغريات، لأنّ ذلك ممنوع، ويعتبر من صور الفساد، وهناك رقابة من ديوان الرقابة المالية.
أيضاً تتضمن الموازنة العامة شرطاً يفرض على كلّ وزارة في حال إجرائها مناقصة لشراء منتجات معينة تحتاجها، أن تمنح الأولوية لمنتجات الشركات الوطنية التي تقدم عطاءاتها مع هامش سماح بزيادة في السعر لمصلحة المنتج الحكومي مقارنة بالقطاع الخاص أو المستورد لا يزيد على 10%، وهذا الأمر أنعش الصناعة المحلية، لكن هذا القرار الملزم لم يطبق سوى سنتين أو ثلاث فقط من قبل الوزارات، إذ صارت تتعامل مع الأمر بالقول إنّ المنتج الحكومي بقيمة أعلى من نسبة 10% المسموحة مقارنة بمنتجات شركات القطاع الخاص أو الأجنبية، وتُرتَّب أسعار مخفضة لها، وذلك بهدف إرساء العطاءات على تلك الشركات وحرمان الحكومية الفوز بها.
- ماذا عن التوجه لإنشاء مصانع جديدة وإعادة تأهيل أخرى متوقفة عن العمل؟
لا توجد موازنة لوزارة الصناعة تُعنى بصيانة وتأهيل معامل أو خطوط إنتاج أو إنشاء معامل جديدة، واقتصر دعم وزارة المالية لوزارتنا بهذا الصدد في أعوام 2010-2011 وفترة ما قبل ظهور تنظيم داعش في 2014، لكن بعدها كان الدعم قليلاً ولا يكادُ يضيف شيئاً، وسياستنا الحالية تنفيذ خطط إنشاء معامل ومصانع وخطوط إنتاج بمشاركة القطاع الخاص عبر عقود مشاركة يُجيزها قانون الشركات الذي يسمح للصناعة بالشراكة مع القطاع الخاص، شرط توافر السيولة من قبل هذا القطاع. لدينا مصانع من فترة ثمانينيات القرن الماضي بحاجة لإعادة التأهيل أو الصيانة وإضافة خطوط إنتاج، ومن الممكن استغلالها وإعادتها للعمل، ولدينا كذلك أراضٍ من الممكن أن تُبنى عليها معامل جديدة، ووفق توجهات كهذه، استطعنا تنفيذ 3 خطط لإعادة العمل بتلك المعامل.
وحقيقة فإنّ الصناعة الوطنية بدأت بالتراجع مع فرض الحصار الاقتصادي على العراق في عام 1990، وأيضاً الضربات المباشرة من الطيران الأميركي خلال الحروب، وآخرها في عام 2003.
- متى بدأ تطبيق هذه الخطط وما تفصيلاتها وماذا أثمرت؟
بدأ تنفيذ هذه الخطط اعتباراً من عام 2017 وما تلاه من أعوام، وبدأنا بالقصيرة المدى واستطعنا إكمالها، إذ إنها لا تحتاج لمبالغ كبيرة وبالشراكة مع القطاع الخاص، واستطعنا إعادة العمل بـ18 مصنعاً، ولدينا خطط متوسطة وطويلة المدى، وعبر المتوسطة استطعنا إعادة تشغيل عدد من المصانع ومن المأمول أن تنتهي نهاية العام الحالي 2022 أو بداية العام الذي يليه. أما بعيدة المدى، فإنها تحتاج لمبالغ ضخمة تصل إلى مليارات الدولارات لإعادة إنشاء معامل الفوسفات والإسمنت الشمالية وكبريت المشراق لأنها مدمرة تماماً للأسف.
- هل ثمة خطط لخصخصة بعض المعامل التي توصف بالخاسرة، وهل هناك خيار بديل في ظل الاعتراضات على الخصخصة؟
قانون الشركات العامة رقم 67 يسمح ببيع الشركات الحكومية التي تستمر خسائرها لأربع سنوات متتالية وإخضاعها للخصخصة شرط إبقاء العمال فيها وتحويلهم لمساهمين مستمرين بالعمل في الشركات نفسها، ولكن لم يجرِ التوجه لهذا الخيار بسبب المزايدات السياسية.
وحقيقة، لجأنا إلى خيار الاستثمار بنسبة 100%، وبموجبه نمنح المستثمر رخصة العمل لتنفيذ معمل متكامل على أرضٍ ممنوحة من وزارة الصناعة مع تخصيص حصة لها من الأرباح كشريك، وطبقنا هنا رؤية بأنه لا يعاد تأهيل المعامل الاستراتيجية التي تعرضت للقصف، لأنه قد يخلّف آثاراً خطيرة على صحة الإنسان وارتأينا تنفيذ معامل قريبة من المعامل الرئيسية.
والشركات الرابحة هي المختصة بإنتاج الإسمنت والأسمدة والمصانع التنموية.
- ما شروط الاستثمار في قطاع الصناعة، وهل سمحت خطتكم باستقطاب مستثمرين عرب وأجانب؟
القانون العراقي يسمح بالاستثمار للعرب والأجانب ويمنح تسهيلات، ومعظم المستثمرين يدخلون بشراكة مع القطاع الخاص لتنفيذ مشاريع استثمارية، وهذا الأمر يجيزه القانون، على أن يحمل المنتج عنوان (صناعة عراقية)، والمشاريع الاستثمارية المنفذة كمعامل تسجل باسم وزارة الصناعة، على أن تكون الإدارة للمستثمر بمدد تراوح مثلاً ما بين 20-30 سنة، وبشرط أن تكون نسبة العاملين الأكبر من العراقيين، وإذا كان المعمل موجوداً وفيه عراقيون، يجري تشغيلهم هم ذاتهم ويدفع رواتبهم المستثمر.
ووفق هذه الآلية استطعنا إعادة العمل بمعمل إسمنت كربلاء الذي تدير العمل فيه حالياً شركة فرنسية أعادت تأهيله مع تشغيل ذات العاملين فيه بإيرادات لوزارة الصناعة تصل إلى 18 مليار دينار (أكثر من 12 مليون دولار).
- ما السبب الذي سمح بتفوق معامل القطاع الخاص في العراق على نظيرتها الحكومية؟
قبل عام 2003 لم تكن الدولة تسمح باستيراد أي منتج يُصنع في العراق، والمعامل كانت حكومية فقط، وهذا الأمر دعم الصناعة العراقية، ولو أردنا أن نطرح مثالاً على كيفية ما حصل من تغيير وأضر بالصناعة، فسنتحدث عن منتج الإسمنت، إذ كان لدينا 18 معملاً حكومياً، بعد 2003 دخل القطاع الخاص بـ 13 معملاً فقط في حينها، ورغم ذلك سيطر على 75% من الإنتاج، وبقيت الـ25% الباقية للمعامل الحكومية، والسبب أنّ معاملنا قديمة ومهترئة، بينما نظيرتها التابعة للقطاع الخاص جديدة وذات إمكانات وقدرات إنتاجية أعلى.
- كيف تفوق المنتج المستورد على المنتج الحكومي المحلي؟
يكاد يكون السبب ذاته، إذ إنّ منتجات الدول المجاورة تصنع بمعامل حديثة، وبالتالي منتجاتنا أقل ولا تغطي حاجة السوق وكلفة تصنيعها أعلى، لذلك دخل المنتج المستورد البلد وفرض نفسه.
- هل ثمة قصة نجاح لدى وزارة الصناعة من الممكن أن تكون مثالاً يُحتذى لتطوير صناعات أخرى؟
نعم بالتأكيد، قصة نجاحنا هي مع الإسمنت العراقي الذي يحظى بثقة المستهلك، ولا يكاد العراقيون يستخدمون غيره في البناء، وإذا أردنا أن نتحدث عن كيفية تحقق قصة النجاح هذه، نقول إنه بعد 2003 دخلت منتجات من إيران وتركيا والصين وباكستان، واحتلت الأسواق.
وفي المقابل، كانت هناك منافسة شديدة بيننا وبين القطاع الخاص أثرت بالإنتاج المحلي، وسمحت بتفوق المستورد، وارتأينا كمدير عام لشركة الإسمنت العراقية في عام 2015 عقد حوارات بين القطاعين العام والخاص، وقلنا لهم إن المنتج المحلي أكثر جودة وإذا لم نتحد سنخسر ونسمح باستمرار خروج مليارات الدولارات من العملة الصعبة خارج البلد، وبالفعل كان الاتفاق على تأسيس جمعية عراقية للإسمنت، وانتُخبت رئيساً، وبعدها ذهبنا لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي آنذاك، وطلبنا منه إصدار قرار لمجلس الوزراء بوقف استيراد الإسمنت، وتعهدنا له بتوفير إسمنت عراقي عالي الجودة وأفضل من المستورد وبسعر 90 ألف دينار (61 دولاراً) للطن، مع توفيره للمواطنين دائماً دون انتظار، ودُعمَت جهودنا بتخفيض سعر الوقود المجهز للمعامل بـ 100 دينار فقط لكلّ لتر (6.7 سنتات).
قبل عام 2003 لم تكن الدولة تسمح باستيراد أي منتج يُصنع في العراق، والمعامل كانت حكومية فقط، وهذا الأمر دعم الصناعة العراقية
بعدها صدر فعلاً قرار مجلس الوزراء في 1/1/2016 بمنع استيراد الإسمنت، ومنذ ذلك الوقت فرض المنتج المحلي نفسه وحافظ على سعره وحظي بثقة المواطن، وحقيقة سعيي الشخصي لمنع استيراد السمنت عرضني للتهديد، وهناك من توعّد بقتلي علناً، لأن هذا القرار أضرّ بمصالحه، وقدمت شكوى أمام القضاء العراقي، واضطررت بعدها إلى سحب الشكوى نتيجة ضغوط كبيرة.
- هل ما زال الدعم الحكومي بمنع استيراد الإسمنت وبيع الوقود بسعر مخفض مستمراً؟
بالنسبة إلى منع الاستيراد نعم، لكن للأسف أقول إن وزارة النفط الحالية قامت بخطوة غير متوقعة أصرت من خلالها على رفع سعر وقود (النفط الأسود) المبيع بدعوى ارتفاع أسعار النفط عالمياً، وحصل ذلك بالفعل، ووجهنا كوزارة صناعة طلباً إلى رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي بضرورة دعم الوقود المبيع للمعامل الحكومية والتابعة للقطاع الخاص، وأصدر أمراً ببيع اللتر بسعر لا يزيد على 250 ديناراً (17 سنتاً) ولم تلتزمه وزارة النفط سوى شهر واحد، وإعادته للسعر الذي وضعته والبالغ 350 ديناراً (23 سنتاً) وهو ما أثر كثيراً في المعامل الحكومية وجعلها خاسرة وقد يضطرها الأمر إلى رفع أسعار منتجاتها بشكل اضطراري، والرفع لم يتوقف ضرره على معامل الإسمنت، بل تضررت جميع المعامل الحكومية التي تستخدم وقود النفط الأسود المبيع من وزارة النفط بسعر غير مدعوم.
- هذه الخسائر ألم تدفع وزارتي الصناعة والنفط إلى الاجتماع والتحاور بغية إيجاد حلول؟
وزارة النفط لم تبدِ أيّ استعداد للحوار، ووصل الأمر إلى حد امتناع وزير النفط إحسان عبد الجبار عن الإجابة على اتصالات وزير الصناعة منهل آل خباز، ووجهنا الكثير من الكتب بغية عقد اجتماع ولم نتلقَّ رداً، وحقيقة رفع أسعار الوقود على المعامل الحكومية سيؤدي إلى تدمير الصناعة العراقية، لأنّه سيضاعف كلف الإنتاج.
- وماذا عن مشكلة مهارة العاملين بالصناعة الحكومية التي قد تمنع القطاع من التطوير؟ وهل لدينا الطاقات والخبرات التي تتمتع بالجودة اللازمة؟
بعض الشركات التابعة لنا لا تواجه مشكلة كهذه، لأن لديها الكوادر والطاقات والخبرات المطلوبة، لكن البعض الآخر يحتاج صراحةً إلى تدريب العمال الموجودين لرفع الكفاءة وأيضاً ضخ دماء جديدة، وهذا الأمر نحتاجه بشدة لتعويض الأشخاص الذين ذهبوا للتقاعد نتيجة تطبيق قانون التقاعد الجديد الذي سمح لمن هم بعمر 60 عاماً بترك الخدمة، وهذا الأمر سبّب تقليل عدد الكوادر من دون تعويضهم بدماء جديدة نتيجة توقف التعيينات التي تمنع إضافة عاملين جدد. وحقيقة، فإنّ ذلك مثّل سبباً إضافياً من شأنه تدمير الصناعة العراقية يضاف إلى السبب الذي أشرنا إليه، المتعلق برفع أسعار الوقود المبيع للمعامل.