ربما تكون روسيا من أكثر الدول التي يرعبها توقيع الاتفاق النووي الإيراني، لأن الاتفاق سيعني عملياً دخول الشركات الغربية الكبرى، وخاصة شركات الطاقة الأميركية والأوروبية، في صناعة الغاز الإيرانية التي تعول فيها موسكو على استغلال عزلتها الدولية في الهيمنة على تجارة الغاز العالمية وكسر الطوق الغربي الذي يحاصر تجارة الطاقة الروسية.
على المدى القصير تتخوف موسكو من تحول الاتحاد الأوروبي نحو إيران لتنويع واردات الطاقة وتلبية النقص في الإمدادات الحالية من الغاز الطبيعي، وبالتالي إبطال مفعول الغاز الروسي كسلاح فعال ضد العقوبات الغربية على خلفية غزوها أوكرانيا.
وحسب معهد كارنيغي للسلام العالمي في نيويورك، فإن من شأن توقيع الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن طهران أن يؤدي إلى دخول إيران كمصدر لسوق الطاقة الأوروبي، خاصة سوق الغاز الطبيعي، حيث إن صناعة الغاز الإيرانية بحاجة إلى التقنيات الغربية ورأس المال الذي لا تملكه طهران في الوقت الراهن.
من جانبه يقول خبير الطاقة البريطاني، سايمون واتكنز، "رغم التوجه العالمي نحو خفض استخدامات الطاقة الأحفورية في توليد الكهرباء، وبالتالي تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الجو، فإن موسكو تدرك تماماً أن الغاز الطبيعي سيبقى المصدر الوسيط في خطة التحول إلى الطاقة المتجددة وربما لمدة عقدين من الزمان على الأقل". وبالتالي فهي ترغب في الشراكة مع إيران في صناعة الغاز الطبيعي.
على المدى الطويل، لدى موسكو استراتيجية متكاملة للهيمنة على سوق الغاز الطبيعي العالمي، وتحديد أسعاره وتسويقه وأسواقه ضمن خدمة مصالحها في التحالف مع بكين ضد القوى الغربية التي تقودها الولايات المتحدة وفق محللين غربيين.
وتعمل روسيا عبر الهيمنة على إمدادات الغاز الطبيعي على تعزيز علاقاتها السياسية مع الصين، أكبر سوق مستهلك للغاز في العالم التي ستظل بحاجة إلى إمدادات كبيرة خلال العقود المقبلة والحليف الاستراتيجي في النزاع مع واشنطن.
وحسب وكالة " ستاندرد آند بورز غلوبال" الأميركية، فإن الطلب الصيني على الغاز الطبيعي سيرتفع إلى 395 مليار متر مكعب خلال العام الجاري من مستوى 370 مليار متر مكعب في العام الماضي 2021، كما سيواصل الطلب الصيني الارتفاع بسبب الأزمة البيئية التي تعاني منها في الوقت الراهن.
ويرى محللون أن الهيمنة الروسية على سوق الغاز العالمي لن تتأتى لموسكو على المدى القصير، لأن تطوير صناعة الغاز الطبيعي ببساطة يحتاج إلى فترة لا تقل عن خمس سنوات في أفضل الأحوال للتحول من طور الاستثمار إلى طور الإنتاج، وبالتالي تعمل موسكو للتحالف مع كبار المنتجين للغاز في العالم وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسهم إيران التي تعاني من العزلة الدولية والعقوبات الغربية مثلما تعاني هي في الوقت الراهن.
من هذا المنطلق، ووفق محللين، تعمل موسكو على بناء علاقات استثمارية في صناعة الغاز مع إيران التي تملك احتياطات ضخمة من الوقود الأزرق، وذات موقع جغرافي استراتيجي يمكنها من تلبية احتياجات الغاز الطبيعي لعملائها الكبار في آسيا بعد خسارة السوق الأوروبي التي باتت مؤكدة حتى الآن.
ولاحظ محللون غربيون في هذا الصدد، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استبق احتمال توقيع الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن بزيارة طهران في شهر يوليو/ تموز الماضي، وبصحبة وفد كبير من شركات الطاقة الروسية على رأسها شركة غاز بروم.
وفي هذه الزيارة وقعت شركة غاز بروم على مذكرة تفاهم مع شركة النفط الإيرانية بقيمة 40 مليار دولار للاستثمار في الغاز الإيراني.
وعبر هذه المذكرة تسعى روسيا لحجز مكانة استراتيجية في الطاقة الإيرانية عبر الشراكة في استخراج وتسويق الغاز الإيراني، وبالتالي تصبح فعلياً شريكاً في قرار الطاقة الإيرانية في المستقبل حتى في حال توقيع طهران للاتفاق النووي. كما أن استثمار غاز بروم سيقوي تحالفها مع بكين التي سبق أن وقعت شركاتها اتفاقية استثمار قيمتها 250 مليار دولار ولمدة 25 عاماً في مشاريع الطاقة والبنية التحتية الإيرانية.
وتعد إيران ثاني أكبر الدول من حيث احتياطات الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا، حيث تبلغ احتياطات الغاز الإيراني المؤكدة نحو 34 تريليون متر مكعب أو ما يعادل 17.3% من إجمالي الاحتياطي العالمي، بينما تقدر احتياطات روسيا من الغاز الطبيعي بنحو 48 تريليون متر مكعب أو ما يعادل 24.3% من الاحتياطي العالمي.
وحسب وكالة الطاقة الدولية، فإن استخدامات الغاز الطبيعي في توليد الطاقة العالمية مقارنة بالنفط تواصل الارتفاع، حيث بلغت في العام الماضي 2021 نحو 23%. وتستهدف روسيا استغلال الاستثمارات في الطاقة الإيرانية لخدمة مجموعة من الأهداف أهمها: السيطرة على إمدادات الغاز الإيراني للأسواق العالمية واستغلال موقع إيران الجغرافي القريب من أسواق الغاز في آسيا.
ولدى إيران حدود جغرافية مع أفغانستان تربطها مع السوق الصيني، كما تستطيع تصدير الغاز من إيران إلى الهند.
أما الهدف الثاني، فهو تعزيز قوة منتدى الدول المصدرة للغاز الطبيعي وتحقيق طموحاتها الرامية إلى تحويل المنتدى تدريجياً من منظمة تشاورية إلى تكتل شبيه بتكتل "أوبك +" الذي يحدد أسعار النفط عبر زيادة أو خفض الإمدادات. وبالتالي فإن موسكو لديها استراتيجية شبه متكاملة لاستخدام الغاز كسلاح فعال في التحالف مع بكين ضد القوى الغربية. وتعمل من خلال الطاقة على جذب الهند بعيداً عن واشنطن وتحديد أسعار الغاز في الأسواق العالمية. ويرى خبير الطاقة البريطاني سايمون واتكنز في هذا الصدد، أن رفع العقوبات الأميركية عن طهران غير مرغوب من قبل موسكو لأنه يعرقل استراتيجيتها للهيمنة على تجارة الغاز الطبيعي العالمية.