موجة تضخُّم عاتية تجتاح الجزائر

23 سبتمبر 2022
سوق خضر وفاكهة بالعاصمة الجزائر (getty)
+ الخط -

تبدَّد أمل المواطنين الجزائريين في الحصول على فترة راحة، ولو مؤقَّتة، من صراعهم المرير مع موجة الغلاء التي اجتاحت الأسواق بقسوة غير مسبوقة وقدرتهم الشرائية التي تتضاءل يوماً بعد يوم مع وصول الأسعار إلى ذروتها حتى بالنسبة للفواكه والخضروات والمواد الاستهلاكية المنتجة في الجزائر والتي من المفترض أن تكون في متناول الجميع.

بحسب الديوان الوطني للإحصائيات الجزائري، وصل معدل التضخُّم في يوليو/ تمّوز 2022 إلى 9.4 بالمائة على أساس سنوي مقارنة بـ 7.3 بالمائة في نفس الفترة من العام الماضي، وتشير إحصائيات صندوق النقد والبنك الدوليين إلى بلوغ معدل التضخُّم في الجزائر 7.22 بالمائة في عام 2021، ويتوقَّع الصندوق ارتفاع نسبة التضخُّم إلى 8.66 بالمائة في نهاية العام الجاري، وهذه البيانات تتَّفق إلى حدٍّ ما مع بيانات الديوان الوطني للإحصائيات.
لكن المثير للاهتمام هو احتلال الجزائر المرتبة الـ19 بعد لبنان والسودان وسورية ومصر التي جاءت في المراتب 3، 16، 17 و18 على التوالي ضمن لوحة قياس التضخُّم للاقتصادي الأميركي ستيف هانكي الذي نشرها في 8 سبتمبر/ أيلول 2022، هذا الاقتصادي يحظى بمكانة علمية مرموقة، إذ إنه يشغل حالياً منصب أستاذ الاقتصاد التطبيقي بجامعة جونز هوبكنز في بالتيمور بالولايات المتحدة، إضافة إلى كونه مديراً لمشروع العملات المضطربة "Troubled Currencies Project" في معهد كاتو في واشنطن العاصمة، ويعتمد هانكي في قياس التضخُّم على بيانات أسعار الصرف في السوق السوداء ونظرية تعادل القوّة الشرائية وتغيُّرات أسعار كل ما يتمّ شراؤه وبيعه في البلاد على عكس سلة السلع والخدمات المحدودة التي تستخدمها الحكومة والمؤسسات المالية الدولية في حساب مؤشِّر أسعار المستهلك.
وفقاً لهانكي بلغ معدل التضخُّم في الجزائر 27 بالمائة في 2022 مقارنة بـ 20.59 بالمائة في 2021، وهي أرقام أقرب ما تكون إلى المعاناة الحقيقية لغالبية الجزائريين الذين يكتوون يومياً بنار الأسعار، فهم منكفئون في البحث عن قوت يومهم الذي هو صلب أولوياتهم التي لا مكان فيها لشراء سيارة أو مسكن، فالاستحواذ على هذه الأشياء هو ضرب من المحال بالنظر إلى الزيادات الزهيدة في أجورهم والارتفاع الجنوني للأسعار؛ وفي ظلّ الأوضاع الحالية، تقبع أغلب الأسر الجزائرية أمام معادلة صعبة لا تقبل الادِّخار طرفاً لها، حيث يلجأ البعض إلى استخدام مدَّخراته السابقة في مواجهة أعباء المعيشة ويلجأ البعض الآخر للاقتراض كملاذ أخير لتوفير قوت يومه.
يعود ارتفاع الأسعار في الجزائر إلى مرور الدينار بأزمة غير مسبوقة من التراجع الحاد في الشهور الماضية، ارتفاع تكاليف الشحن البحري، أزمات التوريد وتعطُّل سلاسل الإمداد العالمية، تهافت الطلب على المواد الغذائية بسبب جائحة كورونا، الاحتكار والمضاربة والمنافسة غير النزيهة، تحكُّم طبقة محدودة ببعض القطاعات الحيوية المتعلِّقة بالغذاء والسلع الأساسية، عدم قدرة الحكومة على ضبط إيقاع الأسعار بما يتناسب مع مداخيل المستهلكين وأرباح التجّار، وكذا تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا التي تعرِّض الأمن الغذائي العالمي للخطر نظراً لوقوعها في المركز الحيوي للإمدادات الغذائية، خاصّة عندما يتعلَّق الأمر بالحبوب والأسمدة.
تعتبر المقاطعة في هذه الحالة مجرَّد حلٍّ مؤقَّت، قد يكون مؤثِّراً وموجعاً، لكنّه لا يكفي لوحده، ولا بدَّ من التشمير عن السواعد لإنعاش قطاعي الزراعة والصناعة، فبدون ذلك ستبقى الحلول الأخرى مجرَّد ذرٍّ للرماد في العيون. صحيح أنّ الحكومة الجزائرية قد استحدثت منحة بطالة للعاطلين عن العمل بقيمة 13 ألف دينار (92 دولاراً) شهرياً كمحاولة لمساعدة هذه الشريحة من المواطنين على التصدِّي لغلاء المعيشة، ورفعت الأجور من خلال خفض الضريبة على الدخل الإجمالي ورفع النقطة الاستدلالية، لكن عجز تلك الإجراءات عن مسايرة الغلاء المتوحِّش والتخفيف من وطأته والحفاظ على مستوى استهلاك الأسر جعل منها مجرَّد تكتيكات لكسب نقاط سياسية أكثر منها اقتصادية واجتماعية.

الأمر الخطير في المشهد الاقتصادي الجديد، الذي رسم ملامحه كل من التضخُّم والغلاء وأزمة الغذاء، هو أنّ الجزائر تُصنَّف من بين الدول الأكثر عرضة للاضطرابات الاجتماعية في ظلّ غياب سياسات حكومية مُوجَّهة للتخفيف من حدّة صدمة ارتفاع أسعار الغذاء على الفئات الفقيرة والمهمَّشة، وذلك وفقاً لدراسة نشرتها شركة "Allianz Trade" للتأمين في 14 يونيو/ حزيران الماضي.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوّة هنا هو: هل هناك مخرج آمن من هذا المأزق الراهن؟
تكمن الإجابة في عدم الوقوف على سطح هذه الأزمة الاقتصادية المُركَّبة والاكتفاء بشرح ظواهر الأمور فقط، بل ينبغي الغوص في أعماقها ودهاليزها المظلمة وملامسة خطوطها الحمر، فمشاكل الاقتصاد الجزائري ليست وليدة جائحة كورونا ولا الحرب الروسية-الأوكرانية، بل ترجع جذور الأزمة إلى الطريقة التي يُدار بها هذا الاقتصاد منذ عقود وإلى اعتناق تعليمات الاقتصاد الرّيعي والابتعاد عن تلبية متطلّبات الاقتصاد الإنتاجي.
تملك الجزائر ما لا يملكه العديد من الدول النشيطة انتاجياً وزراعياً وصناعياً من الموارد الطبيعية والطاقة والأراضي والمياه الجوفية والشريط الساحلي الطويل، ونظراً للافتقار لروح الابتكار وضعف مخرجات التعليم وقلّة جاذبية مناخ الأعمال وتفشّي الفساد وغياب الحوكمة الرشيدة ينتهي المطاف بالكثير من تلك الثروات في الدول الأوروبية التي تحسن استغلالها وإعادة تصنيعها وتصديرها في شكل منتجات نهائية إلى دول العالم بأسعار مرتفعة، محقِّقة بذلك أهدافاً عديدة أهمّها ضمان عائدات بمليارات الدولارات والحفاظ على دوران عجلات الإنتاج باستمرار ودون انقطاع.
خلاصة القول، أزمة غلاء المعيشة ليست مؤقَّتة عارضة، وإنّما هي مزمنة مستمرّة لا سيَّما في ظلّ عدم تنفيذ المشاريع الإنتاجية الضخمة وعدم القيام بالإصلاحات التي ظلَّت حبراً على ورق.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

تتمتَّع الجزائر بمستوى من الاستقرار يسمح لها باستغلال الموارد المحلية واستنهاض الطاقات البشرية والترحيب بالمنافسة النزيهة من أجل إطلاق العنان للأنشطة الإنتاجية وفتح الباب على مصراعيه للصناعات التحويلية، فهذا هو السبيل الأهم لتذليل العقبات التي تعترض كبح جماح الزيادة المفرطة في الأسعار لا سيَّما تلك التي لا تستند إلى أسس اقتصادية، وعدا ذلك لن يتنفَّس المواطن البسيط الصعداء ولن تندفع البلاد نحو الرخاء.

المساهمون