أتقنت ألمانيا قديماً صنع الملاجئ لدرء مخاطر الحروب عن مسؤوليها ومؤسساتها الاستراتيجية كما عن شعبها، وبعد الحرب العالمية الثانية، حققت طفرة عمرانية وعقارية متقدمة على العديد من الدول. إلا أنّ فخ الركود المطبق عليها حالياً يبدو أنه بصدد نسف هذه الطفرة.
فما حكاية هذا التدهور من عصر الملاجئ إلى بناء العقارات الفارهة والشقق الفاخرة حتى هبوط مؤشرات القطاع العقاري الآن؟
يتسم عام 2023 باضطراب لافت بالنسبة للعديد من المطورين العقاريين، ومنهم شركة "آيروبودين" Euroboden البارزة في هذا المجال، والتي يقول صاحبها ستيفان هوغلماير إنّ جهوده تعثرت في بيع شقته العلوية فوق ملجأ من الغارات الجوية يعود إلى الحقبة النازية، وقبل بضعة أسابيع فقط، تقدمت شركته بطلب لإشهار إفلاسها.
وتعكس الضربة المزدوجة التي يواجهها المطور هوغلماير وشركته متاعب قطاع العقارات الأوسع في جميع أنحاء أكبر اقتصاد في أوروبا، حيث يعاني من أسوأ تراجع له منذ عقود. فلسنوات عديدة، غذت أسعار الفائدة المنخفضة طفرة عالمية، ما أثار الاهتمام بالعقارات الألمانية، التي يُنظر إليها على أنها آمنة ومستقرة مثل البلاد.
زيادة أسعار الفائدة جعلت من الصعب الاقتراض من المصارف والعثور على مشترين للشقق والمكاتب والمحال في المشاريع العقارية
وقد أدى الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة، وارتفاع تكاليف الطاقة والبناء، إلى وضع حد لهذا التهافت، ما دفع بسلسلة من المطورين إلى الإفلاس، وتجميد الصفقات ودفع الأسعار إلى الانخفاض، ما دفع الصناعة إلى مناشدة المستشار أولاف شولتز طلباً للمساعدة.
في هذا الإطار، يقول محامي الإعسار لدى شركة "فالكنشتيغ" FalkenSteg تيلمان بيترز: "نحن نتجه نحو الجدار بسرعة مذهلة. لقد سقط المطوّرون الأوائل وسيتبعهم المزيد".
لقد تغيرت حظوظ المطوّرين، بما في ذلك شركة "آيروبودين"، في العام 2022، عندما بدأ البنك المركزي الأوروبي في زيادة أسعار الفائدة، ما جعل من الصعب الاقتراض والعثور على مشترين للمشاريع العقارية، وقالت إدارة الشركة في بيان أوردته "رويترز"، اليوم الجمعة، إنّ بيئة السوق بالنسبة للشركة "تدهورت بشكل كبير".
وتُعد صحة قطاع العقارات في ألمانيا - أكبر سوق للاستثمار العقاري في أوروبا من دون بريطانيا - أمراً بالغ الأهمية، حيث يشكل نحو خُمس الناتج المحلي الإجمالي ويوفر واحدة من كل 10 وظائف. لكن نشاط الأبنية الجديدة انخفض خلال النصف الأول من العام إلى النصف تقريباً مقارنة بالعامين الماضيين.
وفي العام 2010، في الأيام الأولى من طفرة دامت سنوات، اشترى هوغلماير مخبأً متهالكاً فوق الأرض في أحد أحياء ميونخ الفاخرة من الحكومة قبل تحويله إلى شقق فاخرة. واستحوذ هو وشريكه أوسكار لويا – نجم مسابقة الأغنية الأوروبية – على شقة علوية مكوّنة من ثلاث طبقات مكتملة ومزودة بغرفة موسيقى وجدران بأوراق ذهبية في المرحاض.
وخلال العقد الذي تلا ذلك، أكملت شركة "آيروبودين" مشاريع مع مهندسين معماريين مشهورين، وحققت أرباحاً بعشرات ملايين اليوروهات، وجمعت الملايين من المستثمرين، وتوسّعت إلى برلين وخارجها. وظهرت "السقيفة" penthouse على غلاف مجلة "أركيتكتشورال دايجست" Architectural Digest الألمانية.
ولويا، الذي يمتلك حصصاً في شركتين تابعتين لشركة "آيروبودين"، غنّى للموظفين في حفل الذكرى السنوية العشرين للشركة في العام 2019.
لكن الطفرة العقارية وصلت إلى نهاية صادمة في العام الماضي، عندما فاجأت سرعة الزيادات في أسعار الفائدة الكثيرين في القطاع. فأصدرت "آيروبودين" تحذيراً بشأن الأرباح في أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم. وفي أواخر العام الماضي، طرح هوغلماير شقته للبيع في السوق، وأغلقت الشركة مكتبها في فرانكفورت.
الطفرة العقارية وصلت إلى نهاية صادمة عام 2022 عندما فاجأت سرعة زيادات أسعار الفائدة الكثيرين في هذا القطاع الحيوي
وفي أواخر يوليو/ تموز المنصرم، دعت "آيروبودين" إلى اجتماع لتطلب من المستثمرين إعادة هيكلة 92 مليون يورو (100 مليون دولار) من السندات المستحقة، لكن بعد رفضهم الشروط الجديدة، ألغت الشركة الاجتماع بعد أيام وتقدّمت بطلب لإشهار إفلاسها.
في هذا الصدد، يقول دانييل باور، رئيس "رابطة مستثمري رأس المال" SDK التي تمثل نحو 800 مستثمر في "آيروبودين" عبر سندات بقيمة 11 مليون يورو: "كان من الواضح نسبياً أن حاملي السندات لن يقبلوا الاقتراح"، فيما قال الشخص المشرف على عملية الإعسار، أوليفر شارتل، إنّ القضية معقدة نسبياً ولا تزال في مرحلة مبكرة.
ولطالما ألقت "آيروبودين" باللوم على وباء كورونا وحرب أوكرانيا والتضخم وأسعار الفائدة، وهو نفس المزيج السام الذي تسبب في زيادة آلام هذا القطاع بأكمله.
وقد رفض هوغلماير إجراء مقابلة بخصوص هذه القصة بطلب من "رويترز"، قائلاً إنه يحتاج إلى الخصوصية للتركيز على الأعمال، بينما لم يستجب شريكه لويا لطلبات التعليق أيضاً.
يخشى المتخصّصون في مجال العقارات أن يكون الانكماش في ألمانيا أعمق من الانهيار الذي حدث في التسعينيات
و"آيروبودين" ليست حالة معزولة. فقد تقدّم العديد من مطوّري العقارات الألمان الآخرين بطلبات لإشهار إفلاسهم في الأشهر الأخيرة.
وتُعد شركة "غيرتش" Gerch، ومقرها دوسلدورف، والتي تبلغ قيمة مشاريعها 4 مليارات يورو، أكبر ضحية في ألمانيا حتى الآن.
ويخشى المتخصّصون في مجال العقارات أن يكون الانكماش في ألمانيا أعمق من الانهيار الذي حدث في التسعينيات، في أعقاب الاندفاع نحو العقارات في شرق ألمانيا بعد سقوط جدار برلين.
وفي هذا الإطار، قال كريستوف نيرينغ، الذي يرأس "الهيئة الجامعة لمديري الإعسار" VID، إنّ "ارتفاع تكاليف البناء والتحوّل عن العمل المكتبي وارتفاع أسعار الفائدة تعني أننا سنرى المزيد من المطوّرين يفقدون قوّتهم"، مضيفاً أنّ "معظم الناس لم يتوقعوا أنّ هذه الأزمة قادمة. ومن المدهش الآن مدى السرعة التي تتكشف بها".
وكان المقرضون أيضاً بطيئين في الاستجابة. ففي العام 2020، ومع ارتفاع حرارة سوق العقارات، وجّه تحذيراً بهذا الشأن البنك المركزي الألماني إلى مصارف البلاد، التي تمثل العقارات بالنسبة لها حوالي 70% من جميع قروضها المحلية. وفي أغسطس/ آب الماضي، حذّر مجدداً من أن طفرة العقارات لا تزال مبالغاً فيها رغم الانخفاضات الأخيرة، معرباً عن الأمل في أن يعني انخفاض البطالة أن معظم المقترضين يمكنهم الاستمرار في سداد القروض.
وألمانيا والسويد هما الأكثر تضرراً في أوروبا القارية بسبب التدهور العقاري العالمي الذي اجتذب شركات بناء المنازل في الصين، من "إيفرغراند" إلى "كانتري غاردن".
وقد جرى إنشاء مخبأ هوغلماير في الأصل في أوائل أربعينيات القرن الماضي لحماية السكان من قنابل الحلفاء. وبعد الحرب، أصبحت الأراضي القريبة بمثابة معسكرات للنازيين المسجونين ومن ثم اللاجئين، وسعى مصففو الشعر والفنادق المحليون إلى الحصول على إذن لنشر إعلاناتهم على واجهته المليئة بالرصاص.
ومنذ العام 2005، باعت ألمانيا نحو 320 ملجأً. وتبلغ مساحة "البنتهاوس" (السقيفة) 380 متراً مربعاً، وتحتل الطوابق من الخامس إلى السابع، وتضم تراساً على السطح، وكان سعرها في الأصل أقل من 13 مليون يورو، قبل أن ينخفض إلى 11 مليوناً في وقت سابق من هذا العام، لكنها لا تزال واحدة من أغلى الشقق في ألمانيا. (اليورو = 1.0841 دولار).
(رويترز، العربي الجديد)