يقترب العالم من "حرب باردة" جديدة على الموارد والأسواق في فترة ما بعد جائحة كورونا. لكن هذه "الحرب الجديدة"، التي تخطط لها إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جوزيف بايدن ، ربما ستكون أكثر شراسة وتأثيراً على الصين من النزاعات والحروب التجارية التي خاضتها مع إدارة الرئيس دونالد ترامب خلال السنوات الأربع الماضية.
كما ستختلف "الحرب الباردة الجديدة" التي تخطط واشنطن لخوضها مع بكين في عهد بايدن عن الحرب الباردة التي خاضتها واشنطن مع موسكو في القرن الماضي في العديد من القضايا، إذ إن الصين باتت قوة اقتصادية وتجارية ضخمة ذات مصالح متشابكة مع الأسواق العالمية، مقارنة بما كانت عليه الإمبراطورية السوفيتية المعزولة عن الأسواق العالمية والضعيفة مالياً وتجارياً. لقد باتت الصين تتفوق على الولايات المتحدة في الأسواق العالمية من حيث الحجم التجاري، وغزت خلال السنوات الأخيرة أميركا في عقر أسواقها.
كما أن الصين تقدمت تقنياً وتتملك حالياً تقنيات متقدمة جداً مثل الجيل الخامس وتقنيات الأمن السيبراني. ومن المقدر أن يبلغ حجم الاقتصاد الصيني بنهاية العام الجاري 2020 نحو 14 تريليون دولار، وفق إحصائيات "تريدنغ إكونومكس غلوبال" . كما أن لدى الصين طبقة وسطى عريضة وقوة شرائية متنامية قوامها 1.439 مليار مستهلك.
وبهذه الأرقام تقترب الصين من حيث القوة الاقتصادية والتجارية من منافسة الاقتصاد الأميركي، أضخم اقتصاد في العالم. وبالتالي لا يمكن مقارنة حجم الاقتصاد السوفييتي الذي واجهته واشنطن إبان الحرب الباردة بالاقتصاد الصيني الذي ستواجهه إدارة بايدن في حربها الباردة المحتملة.
وقال مدير الاستخبارات الأميركية جون راتكليف، قبل أقل من أسبوع، إن الصين تعد أكبر تهديد للديمقراطية والحرية على مستوى العالم منذ الحرب العالمية الثانية. وردت المتحدثة باسم وزارة خارجية الصين هوا تشون ينغ، عليه بقولها إن تصريحه يوضح عقلية الحرب الباردة".
في الحرب الباردة التي خاضتها أميركا في القرن الماضي وأدت إلى سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الشيوعي، استخدمت أميركا "استراتيجية الاحتواء" التي ابتدعها الدبلوماسي الأميركي جورج كينان، وتم خلالها استخدام واشنطن سلاح حظر التقنية والحصار المالي عبر المؤسسات الدولية المالية متعددة الأطراف مثل البنك الدولي وصندوق النقد. وأدت هذه الاستراتيجية إلى تخلف المعسكر الشيوعي تقنياً وأرهقته مالياً، خاصة في أعقاب انهيار أسعار النفط التي كانت تشكل المورد المالي الرئيسي لروسيا في تمويل الإمبراطورية الشيوعية، وبالتالي فهنالك تباين نوعي بين الحربين، ومن الصعوبة مقارنتهما، وصولاً إلى احتمالية ما ستسفر عنه الحرب الباردة الجديدة .
لكن ما هي الأسلحة المتاحة لدى الرئيس جوزيف بايدن في حربه الباردة الجديدة؟
وفق مراقبين فإن أولى الخطوات التي ستستخدمها إدارة بايدن هي تقوية تحالف الاقتصادات الرأسمالية الليبرالية والمنظمات التجارية والمالية والنقدية العالمية متعددة الأطراف في "الحرب الباردة الجديدة" ضد الصين. كما أن إدارة بايدن ستجد إلى جانبها الهند التي يقترب عدد سكانها من الصين، وهي الدولة الوحيدة في آسيا التي من المقدر أن تنافس الصين بحلول العام 2030.
في هذا الشأن، يرى الزميل بمعهد جاكسون التابع لجامعة ييل الأميركية، الاقتصادي ستيفن روش، أن إدارة بايدن سوف تستخدم ضد الصين بعض القضايا التي سبق أن استخدمتها إدارة دونالد ترامب في حربها التجارية، ولكنها ستختلف عن إدارة ترامب في الأسلوب، إذ إنها ستعمل على تقوية منظمة التجارة العالمية، وستثير قضايا حقوق الملكية الفكرية، ونقل التقنية والأمن السيبراني، وقضايا تحرير الاقتصاد والاستثمار والانفتاح وحقوق الإنسان ضد الحكومة الصينية، كما ستطالب الصين بالتطبيق الكامل لقوانين منظمة التجارة العالمية. وحتى الآن تواجه الحكومة الصينية العديد من الانتقادات في أوروبا وآسيا بشأن سجلها في هذه القضايا.
من جانبها، ترى سين كينغ المحاضرة بجامعة نوتردام بهولندا، أن إدارة بايدن ربما ستستخدم قضايا حريات التجارة والاستثمار في وقت تستخدم الحكومة الصينية "القهر السياسي" ضد الشركات والمستثمرين الأجانب في أراضيها. وتقول الأستاذة كينغ في هذا الشأن: "إن الحكومة الصينية تطالب الشركات والمستثمرين في أراضيها بعدم الانتقاد أو الاعتراض على السياسات الخاصة بحقوقها السيادية على تايوان وإجراءاتها الأمنية في هونغ كونغ، وسيادتها على مناطق النزاعات الحدودية في الدول الأخرى مثل نزاع التبت مع الهند وبحر الصين الجنوبي مع دول آسيا الأخرى وجزر سينكاكو مع اليابان". وإثارة هذه القضايا ستجد تعاطفاً من مجتمع المال والأعمال العالمي ويمكن توظيفها بسهولة للضغط على بكين.
ورغم الحظر التجاري والرسوم التجارية التي استخدمتها إدارة ترامب ضد الصين، يلاحظ أن الشركات الصينية واصلت تمددها في السوق الأميركي، إذ أظهرت البيانات التجارية الأخيرة أن هذه السياسة لم تقلل حجم الفائض التجاري الصيني مع الولايات المتحدة، كما أن حكومة بكين لم تتقيد بالاتفاقات التجارية التي وقعتها مع أميركا. وبالتالي يرى اقتصاديون لابد من اتباع استراتيجية جديدة في محاصرة التمدد التجاري الصيني.
في هذا الشأن، قال الزميل بمعهد بيترسون للدراسات الاقتصادية في واشنطن، الاقتصادي شادي باون، إن الصين لم تتقيد ببنود الاتفاق التجاري الأولى مع الولايات المتحدة، وإنها "استوردت بضائع تقل بنسبة 60% عما تعهدت به في الاتفاق".
يذكر أن الفائض التجاري الصيني في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بلغ رقماً قياسياً قدره 74.4 مليار دولار، وأن نحو 46% من هذا الفائض مع الولايات المتحدة.
وبحسب تحليل لمصرف "نومورا بانك" الياباني الاستثماري، فإن الصادرات الصينية تستفيد من "التعافي السريع للاقتصاد الصيني من جائحة كورونا".
ويرى خبراء أن حرب الموارد والأسواق المقبلة، التي ستشكل المواجهة بين الصين وواشنطن وحلفائها بعد نهاية جائحة كوفيد 19، ستكون حاسمة في تحديد مسار النفوذ في آسيا وتشكيل "النظام العالمي الجديد"، إذ إن لدى الشركات والمصارف الغربية شهية استثمارية لتعويض ما خسرته في العام الجاري، وربما حتى منتصف العام المقبل بسبب الإغلاق والكساد الاقتصادي والتجاري.
ولاحظ خبراء، أنه رغم تعاون بكين وواشنطن في العديد من القضايا الدولية خلال الإدارات الأميركية النتعاقبة، إلا أن التناقض الأيديولوجي وتناقض المصالح الاقتصادية والتجارية يجعلان الصراع بين الصين والولايات المتحدة أمراً حتمياً لا مناص منه خلال السنوات المقبلة، وبغض النظر عمن يحكم الولايات المتحدة. وربما ستكون دول آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا حيث تتركز الموارد الأولية والأسواق البكر، مسرح الحرب الباردة الجديدة. إذ من المتوقع أن تنمو وتتسع أسواق العالم الثالث مع نمو الطبقة الوسطى ونمو القدرة الشرائية لسكانها.
ووفق هؤلاء الخبراء، فإن واشنطن وضعت في الاعتبار احتمال التنافس على النفوذ العالمي أو حتى العداء منذ سقوط الإمبراطورية الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي في عقد التسعينيات الماضي، ولكن العلاقات الاقتصادية والتجارية القوية ومصالح الشركات متعددة الجنسيات الكبرى في الولايات المتحدة بالسوق الصيني حالت دون تطور هذه المنافسة إلى حرب باردة.
وحتى حينما صعد الرئيس دونالد ترامب للحكم في العام 2017، وقرر استعادة النفوذ والهيمنة الأميركية على العالم مرة أخرى، لم تكن لدى إدارته استراتيجية متكاملة لمواجهة التمدد التجاري والاقتصادي الصيني، إذ إنه لم يبنِ التحالف المطلوب مع الدول الرأسمالية الغربية في أوروبا وآسيا لنجاح المواجهة وعزل الصين وإنما استخدم أسلحة جزئية في الصراع تتشكل من الحظر على شركات التقنية والرسوم الجمركية. وخلال السنوات الأربع الماضية ثبت عدم فاعلية هذه الأسلحة.
يذكر أن واشنطن وحلفاءها في أوروبا وآسيا بنوا علاقات التعاون مع الصين خلال العقود الأخيرة، على أمل أن تفلح أدوات الانفتاح التجاري والاستثماري والإصلاح الاقتصادي وتقود تدريجياً إلى تحول سياسي ليبرالي في الصين، أو ربما تؤدي إلى وهن سلطة الحزب الشيوعي بسبب الصراع على المكاسب المالية بين النخب السياسية في الصين وربما يقود ذلك تدريجياً إلى نهاية الحزب الشيوعي.
لكن ما حدث أن الصين قويت اقتصادياً وتجارياً خلال العقود الأخيرة، ومع هذه القوة اشتدت قبضة الحزب الشيوعي على السلطة. ويلاحظ أن الحزب الشيوعي الصيني لا يزال ينظر إلى الدول الرأسمالية بمنظار الدول الاستعمارية التي تعمل على تحطيم الدول المستقلة في آسيا وأفريقيا وينظر لنفسه بمنظار المخلص من استعمار الإمبريالية الغربية.