تسيطر الحيرة على الناخبين الأتراك، لا سيما "غير المسيّسين"، الذين يرون أن سياسات من ستأتي به صناديق الاقتراع هذه المرة لن تبدد هواجسهم حيال استمرار الصعوبات المعيشية، فإما القبول باستمرار السياسات الاقتصادية التي انتهجها الرئيس رجب طيب أردوغان بحلوها ومرها حال الفوز، أو المغامرة بسياسات بديلة يحملها منافسه كمال كلجدار أوغلو، والتي يرى محللون أنها قد تتسبب في صدمة للأسواق تأتي بنتائج عكسية على غير ما يطمح الكثيرون.
وتتضاد البرامج الاقتصادية لأردوغان وكلجدار أوغلو، بشأن قضايا أساسية تتعلق بسياسات أسعار الفائدة، وحماية الودائع بالليرة، وطرق جذب الاستثمارات، وحتى العلاقات التجارية الخارجية، وكلها ملفات تمس بالدرجة الأولى الوضع المعيشي للأتراك.
وتسبب تدخل أردوغان في السياسات النقدية للبنك المركزي من أجل خفض أسعار الفائدة بغية تعزيز نمو الاقتصاد، في دفع الليرة إلى مستويات غير مسبوقة من الانخفاض، وزاد من معدلات التضخم الذي تجاوز 85% العام الماضي، قبل أن يتباطأ في الأشهر الأخيرة، ما قلص القدرات الشرائية للكثير من الأسر.
وبات سخط الأسر من الغلاء، ورقة في يد كلجدار أوغلو الذي يحمل برنامجه سياسات تهدف إلى نسف ما رسخه أردوغان، خاصة فيما يتعلق بالسياسات النقدية، إذ يميل المرشح المنافس لاعتماد معايير أوروبية تتعلق بسعر الفائدة ما يعني رفعها في ظروف التضخم الحالية. لكن ذلك قد لا يحمل أخباراً سارة للقطاعات الاقتصادية والمصرفية والمواطنين على حد سواء في تركيا، وفق محللين اقتصاديين وكذلك بنوك استثمار عالمية.
وفي وقت سابق من مايو/أيار الجاري قال بنك الاستثمار الأميركي غولدمان ساكس إن "البنوك ستكون على الأرجح الأكثر عرضة لتلقي ضربة في حالة فوز المعارضة"، إذ إن أسهم البنوك أكثر عرضة من غيرها لتأثير رفع محتمل في أسعار الفائدة، عقب التصويت لكلجدارأوغلو، وذلك بعد اتباع سياسة نقدية غير تقليدية.
ووسط حيرة الأتراك التي يتوقع أن يكون فارق الحسم فيها ضئيلاً لصالح أي من أردوغان وكلجدارأوغلو، تبقى العوامل الاقتصادية الأكثر سيطرة على المشهد. ويقول المحلل التركي إسلام أوزجان لـ"العربي الجديد"، إن "مصير الرئيس والكتل البرلمانية للأحزاب المتنافسة اليوم، مرتبط أولاً وأخيراً بالوضع الاقتصادي والمعيشي".
وأضاف أوزجان أن "تهاوي العملة التركية لتلامس 20 ليرة للدولار الواحد، بدّل من آراء الشارع التركي بقدرة حكومة العدالة والتنمية على استعادة قوة العملة وتقديم الرفاهية التي نعم بها الأتراك خلال العقد الأخير"، مضيفاً أن "انتهاكات القانون وشبهات الفساد التي توجه لبعض الشخصيات بالحزب الحاكم والسلطوية تزيد من حظوظ المعارضة ومرشحها اليوم".
لكن الخبير الاقتصادي خليل أوزون، يرى أن "الحكومة التركية قدمت للشعب خلال الأزمات العالمية ما لم تستطع أوروبا وحتى الولايات المتحدة تقديمه"، موضحاً خلال حديث مع "العربي الجديد" أن "أزمة الغلاء والتضخم دولية، وأهم أسبابها الحرب في أوكرانيا، بينما كانت تركيا الأقل تأثراً، وجرى تقديم حزم دعم كبيرة للمواطنين".
ويضيف أن "أردوغان تعهد برفع الحد الأدنى لأجور العاملين في الحكومة بنسبة 45% بعد الانتخابات، وهو ما يحد من تداعيات التضخم"، بينما برنامج المعارضة بهذا الصدد يحمل وعوداً عمومية من دون رؤية واضحة.
وحول سعر الصرف المستمر بالتراجع، يلفت أوزون إلى أن "سياسة بلاده ببناء اقتصاد حقيقي ومتين، واستمرار سعيها لمصاف العشرة الكبار ألزمها تخفيض سعر الفائدة، ما زاد من تراجع سعر الليرة لفترة وستعود حينما يزيد الإنتاج والصادرات وتتحرر بلاده من عبء فاتورة استيراد المحروقات التي تزيد عن 50 مليار دولار سنوياً".
في السياق، يرى المحلل الاقتصادي التركي علاء الدين شنكولر، أن "للمشاريع الكبيرة التي نفذتها وستنفذها الحكومة، دوراً كبيراً في استيعاب الداخلين في سوق العمل سنوياً، ما يجعل وعود أردوغان بتخفيض البطالة إلى حدود 7% أمراً معقولاً وممكن التحقيق، فالمواطن يهمه استقرار عمله وديمومته ويهمه دخل جيد يحقق له الرفاهية".
لكن المحلل أوزجان أويصال يقول في المقابل إن الأتراك "قلقون على مستقبلهم في ظل الحكومة الحالية وأردوغان، بدليل زيادة الهجرة من الشباب خاصة إلى الدول الأوروبية"، ما يعني برأيه ضرورة تغيير الحكومة، واختيار رئيس جديد، بعد ما وصفه بالفساد، والتعامل مع تركيا كـ"ملكية خاصة".
وتركزت البرامج الانتخابية لمرشح تكتل الأمة، كلجدار أوغلو، ومرشح الشعب، أردوغان، على ثلاثية الليرة والمعيشة والبطالة.
ففي حين وعد أردوغان بالعمل على خفض التضخم وإعادته إلى خانة الآحاد، وأن حكومته سترفع نصيب الفرد من الدخل القومي في الفترة المقبلة إلى 16 ألف دولار سنوياً ثم إلى مستويات أعلى، وتوفير 6 ملايين وظيفة، وتخفيض البطالة إلى ما دون 7%، وعدت المعارضة خلال بيانها بزيادة الدخل القومي 200% خلال خمس سنوات وحصة الفرد التي يقدرها معهد الاحصاء الحكومي بنحو 10.6 آلاف دولار، وتقليص البطالة إلى نحو 5% من خلال تأسيس 9 مناطق اقتصادية خاصة تعود بالفائدة على 81 ولاية، بالإضافة إلى 50 قاعدة إنتاج و17 مركزاً معنياً بالزراعة وتربية الحيوانات.
كما تختلف آراء الأتراك حول دور وتأثير النظام البرلماني الذي تعد بعودته المعارضة، على الاقتصاد، ففي حين يرى البعض أن تفرّد الرئيس التركي أضر بالاقتصاد، يرى آخرون أن النظام الرئاسي ألغى التضارب والخلافات بين الحكومة، خاصة إن كانت ائتلافية من أحزاب مختلفة.
كذلك يسيطر القلق على الناخبين من تبدل بنية الاقتصاد وعلاقات تركيا الخارجية، فيما لو وصلت المعارضة للسلطة، خاصة بعد اتهام مرشح الأمة بعض دول المشرق وروسيا، بالتدخل أو حصد استثمارات مضمونة الربح، وتهديده بنسف الاتفاقات وبعض الاستثمارات.
ويرى المحلل الاقتصادي التركي، علاء الدين شنكولر، أن توجه كلجدار أوغلو نحو الغرب يحمل "مخاطر وقلقاً"، مشيراً إلى أن "تصريحات مرشح المعارضة حول جلب 100 مليار دولار من الخارج في صورة مساعدات أو استثمارات أوروبية أو أميركية، سيكون لها ثمن كبير على الاقتصاد وتوجه تركيا، وربما التدخل بخططها ومساعيها، خاصة ما يتعلق بنهضة الصناعات العسكرية والمفاعل النووي السلمي. وتابع: "لدينا تجارب بعدم تزويد تركيا بأسلحة، والامتناع عن بناء مفاعل نووي، رغم الوعود منذ سبعينيات القرن الماضي".
ويقول: "لا ضير إن جرى تحسين العلاقات مع الغرب، لأن استهداف تركيا يعوق تطلعاتها، ولكن من دون التبعية"، محذراً من "ضرب العلاقات مع دول المشرق العربي أو روسيا لأهميتها فيما يتعلق بالسياحة والاستثمار كما أنها مصدر مهم لإمدادات الطاقة".
وفي ظل التجاذبات حول برامج المتنافسين، يتفق الأتراك على أن الاستقرار هو المطلب الأول والأهم الذي يلتقون عليه، فوصول حجم اقتصادهم إلى نحو تريليون دولار، وزيادة صادراتهم عن 300 مليار دولار سنوياً، إنجاز ساهم الجميع بصناعته، كما أن الديمقراطية، وانتهاء زمن الانقلابات، وتسريح العمالة لمجرد انتماءاتها السياسية، مكاسب تجب المحافظة عليها.