بينما لم يستفق الليبيون بعد من صدمة الأسواق الناجمة عن تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، يلوح في الأفق صراع داخلي جديد يكاد يصل إلى حد الاحتراب بين الحكومتين، المكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا، وحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، ما دفع المواطنين إلى الهرع لتخزين السلع وسحب الأموال من البنوك، خشية مرحلة جديدة من الغموض وعدم اليقين.
وتعيش العاصمة طرابلس أجواء من التوتر والترقب لما ستفضي إليه الأحداث، خاصة في ظل إصرار حكومة باشاغا على دخول المدينة وممارسة مهامها داخلها، رغم إعلانها، السبت الماضي، عن تراجع قوات تابعة لها كانت تنوي دخول العاصمة.
طوابير طويلة أمام المصارف
ومع تصاعد مخاوف الليبيين من اندلاع الصراع، اصطف المواطنون في طوابير طويلة أمام المصارف التجارية خلال الأيام الأخيرة بغرض سحب مدخراتهم.
يقول المواطن على بوغراره، الذي اصطف ضمن كثيرين أمام أحد البنوك في العاصمة طرابلس، إنه يريد سحب أمواله والاحتفاظ بها في منزله، لأن طبول الحرب على الأبواب وقد تغلق البنوك والمصالح الحكومية بحجة الوضع الأمني كما حدث في سنوات سابقة. مضيفا، لـ"العربي الجديد"، أن الشعب الليبي يعاني من أزمات معيشية لا تنتهي ونزوح منذ عشر سنوات.
ويؤكد أحمد الهمالى، وهو صاحب محل تجاري في منطقة طريق الشوك في طرابلس، أن هناك سحبا للسلع الغدائيّة الأساسية هذه الأيام من قبل المواطنين، لتخزين الدقيق (الطحين) والزيت والأرز والمكرونة، على الرغم من ارتفاع أسعارها، مشيرا إلى أن الكثيرين يرغبون في الشراء بالصّك المصدّق (شيكات مصرفية)، خاصة من سكان المناطق النائية بحجّة نقص السّيولة المصرفيّة.
بدوره، يقول على الماقوري، المحلل الاقتصادي، لـ"العربي الجديد"، إن صراع الحكومتين على مقر ممارسة الأعمال في طرابلس ستكون له آثار على الأزمات المعيشيّة، موضحا: "نحن على مشارف نهاية الربع الأول من العام ولا توجد ميزانية حتى الآن والرواتب تتأخر لأكثر من شهرين".
ويضيف أن "هناك أيضا نقصا في إمدادات البنزين وكذلك أدوية الأمراض المزمنة، وأزمة في الغذاء، مع تراجع المخزون من القمح، وهو لا يكفي حتى شهر رمضان (يحل مطلع إبريل/نيسان المقبل) مع ارتفاع سعر كيلو الدقيق إلى الضعف بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية". ويتابع "هناك قوى خارجية ترغب في تجدد الصراع".
وفي السياق، يقول أحمد أبولسين، أستاذ الاقتصاد في جامعة طرابلس، إن هناك مخاوف من تدخّل دولي بالوصاية، على اعتبار أنه يمثل حلا عبر وجود طرف ثالث أو بوادر التقسيم الحكومي من جديد والرجوع إلى المربع الأول، مؤكدا في تصريح لـ"العربي الجديد" أن البلاد بحاجة ماسة إلى وضع خطة استراتيجيّة لتوفير مخزون سلعي ودوائي يكفي لستة أشهر على أقل تقدير.
موجة من التمرد والفوضى
ويضيف أبو لسين أنه مع تدهور الأوضاع المعيشية وتوقف الإنفاق العام وعدم حصول القوات المسلّحة للطرفين على رواتبهم، فإن الحكومتين المتنافستين ستفقدان الدعم الشعبي، وستدخل البلاد في موجة من التمرد والفوضى، وسوف نرجع إلى الإقفالات الجديدة للنفط وزيادة الطلب على الدولار، ما يؤدي إلى السحب من الاحتياطي النقدي الذي تراجع خلال السنوات العشر الأخيرة إلى النصف.
وتعاني ليبيا، منذ اندلاع الثورة التي أسقطت نظام معمّر القذافي عام 2011، من هجمات متكررة على منشآت النّفط والغاز، خاصة من المليشيات التي تسعى للحصول على موارد مالية، فضلاً عن الإضرابات المتكررة للعاملين في هذه المنشآت.
ويشكل الصراع على النفط والغاز تحدياً للبلاد التي تعتمد على موارد الطاقة كشريان حياة لاقتصادها، ويدور الإنتاج النفطي حول 1.1 مليون برميل يوميا، مقارنة بنحو 1.6 مليون برميل قبل عام 2011. وتعتمد ليبيا على النفط لتوفير نحو 95% من إيراداتها.
وتأتي أجواء الاحتراب الداخلي لتزيد من حالة عدم اليقين في حدوث استقرار معيشي لدى الليبيين، إذ لا تزال تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية تلقي بظلال سلبية واسعة على إمدادات السلع الأساسية والأسعار في البلد الذي يعتمد بشكل كبير في تلبية احتياجاته على الاستيراد.
وتحركت حكومة الوحدة الوطنية عبر سلسلة من الاجتماعات لمواجهة غلاء الأسعار، إلا أن الأسعار تواصل الصعود لتصل إلى الضعف في العديد من السلع الأساسية، وفق تجار.
ووفق بيانات صادرة عن مصرف ليبيا المركزي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منها، فإن إجمالي الاعتمادات المستندية (إجراءات بنكية) لاستيراد السلع خلال شهرين ونصف من العام الحالي بلغت ملياري دولار.
وآخر التحركات تمثلت في زيارة رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة قبل أيام، سوق الكريمية، وهو أكبر تجمع تجاري في طرابلس، حيث اطلع على مدى توفر السلع في الأسواق والمحال التجارية، من مواد أساسية، وتوفر المخزون الكافي من مادة الدقيق واستقرار أسعارها.
خطوات تصعيدية ضد المطاحن
كما كشفت مصادر مقربة من وزير الاقتصاد محمد الحويج، في تصريح خاص، أن الوزارة قدمت مقترحاً بإلغاء الرسوم الجمركية والضرائب على الشركات الموردة للسلع الأساسية، في مسعى لتخفيض الأسعار قبل شهر رمضان.
وتتزامن هذه الخطوات مع اتخاذ وزارة الاقتصاد خطوات تصعيدية ضد شركات المطاحن، بغية دفعهم إلى توفير دقيق المخابز بسعر مقبول، مهددة إياها بسحب تراخيصها، فضلا عن عقد اجتماعات مع مورّدي زيت الطعام.
لكن الأسواق دخلت في مرحلة غير مسبوقة من الغلاء. وفي سوق سلطان بمنطقة السياحية بالقرب من وسط العاصمة، تقول سمية اللافي، ربة منزل، لـ"العربي الجديد"، إن الأسرة باتت غير قادرة على شراء السلع، مشيرة إلى أن لتر زيت الطعام وصل إلى 10 دنانير بدلا من 7.75 دنانير قبل أيام (الدولار يعادل 4.64 دنانير).
وتلفت سمية إلى أن سعر السكر قفز أيضا إلى 4.5 دنانير مقابل 2.5 دينار، مضيفة أن "البيانات الحكومية حول تدخّلها للقضاء على الغلاء مجرد كلام في الهواء".
بدوره، يقول رئيس اتحاد جمعيات حماية المستهلك أحمد الكردي، إن هناك احتكارا ومضاربات في السلع، وسط غياب الدور الرقابي من الحكومة لمواجهة ارتفاع الأسعار.
لكن المحلل الاقتصادي محمد الشيباني يقول إن زيادة الأسعار سببها القفزات المسجلة عالمياً، حيث تعتمد ليبيا على استيراد 85% من احتياجاتها من الخارج، فضلا عن تخفيض سعر الصرف بنسبة 70%، مما تسبب في تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، خاصة أن دعم السلع مرفوع منذ عام 2015.
الأسعار ستواصل الارتفاع
ويرى المحلل الاقتصادي علي ميلاد، أن الأسعار ستواصل الارتفاع في ظل الأجواء الحالية، منتقدا تحركات الحكومة بشأن المخزون الاستراتيجي الموجود لدى التجار. ويشدد على أن الأمن الغذائي يتطلب توفير مخزون يكفي ستة أشهر، بينما شهر رمضان هذا العام سيكون مؤلما للأسر الليبية بسبب ارتفاع الأسعار.
وكانت ليبيا تعتمد على صندوق موازنة الأسعار، وهو مؤسسة عامة تأسست من أجل تحقيق استقرار في أسعار السلع والخدمات، وتوفيرها بتكلفة مناسبة لجميع المواطنين، إلا أن الصندوق تعرض لأزمة مالية أوقفت نشاطه عام 2016.
وكانت ليبيا تنفق ملياري دولار سنوياً لدعم الدقيق والأرز والسكر والشاي وبعض السلع الأخرى، ولكنها رفعت الدعم السلعي منذ عام 2015 دون توفير دعم نقدي للمواطنين. ويتوقع صندوق النقد الدولي وصول معدل التضخم في البلاد إلى 15% بنهاية العام الجاري 2022.
ووفق تقرير حديث لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، فإن الأسعار العالمية للأغذية والأعلاف قد ترتفع بما يتراوح بين 8% و20% نتيجة الحرب الدائرة في أوكرانيا، مما سيؤدي إلى قفزة في عدد المصابين بسوء التغذية على مستوى العالم.
وكانت كارمن راينهارت، كبيرة الاقتصاديين في البنك الدولي، قد قالت إنّ ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا قد يفاقم مخاوف الأمن الغذائي القائمة في الشرق الأوسط وأفريقيا، اللذين يعانيان بالفعل من انعدام الأمن الغذائي، وقد يؤدي الأمر إلى تنامي الاضطرابات الاجتماعية.
وأضافت راينهارت، في مقابلة مع "رويترز" نهاية الأسبوع الماضي: "من المعروف أنّ انعدام الأمن الغذائي وأحداث الشغب كانت جزءاً من قصة الربيع العربي".