يوم 23 أغسطس/آب الماضي، خرج علينا رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، بتصريحات قال فيها إن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي في مراحلها النهائية، وإن الحكومة وصلت إلى مرحلة متقدمة من المفاوضات بشأن الحصول على قرض جديد للمساعدة في دعم اقتصاد البلاد، وهو ما أوحى للجميع باقتراب التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، على غرار اتفاق عام 2016.
ما عزز هذا الإيحاء أيضاً التصريحات التي أطلقها مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد، جهاد أزعور، يوم 19 سبتمبر/أيلول الجاري، الذي أكد أن اختتام محادثات مصر مع الصندوق حول القرض ستكون قريباً، وأن المفاوضات في تقدم مستمر، وأن تحديد مبلغ القرض يتم عند انتهاء المفاوضات.
الحكومة المصرية أكدت في وقت سابق أنها وصلت إلى مرحلة متقدمة من المفاوضات بشأن الحصول على قرض جديد
سبق ذلك مباشرة تصريحات مهمة لوزيرة التخطيط هالة السعيد قالت فيه نصا: " نحن كحكومة نتفق على أن سعر الصرف المرن سيكون مفيدا بالتأكيد للاقتصاد"، وهو ما أعطى انطباعا قويا بأن التعويم الرابع للجنيه على الأبواب، وأن الحكومة عزمت أمرها، وأن هذه رسالة للصندوق والمؤسسات المالية قبل الرأي العام المصري.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد من التفاؤل، بل اتخذت الحكومة المصرية خطوات مهدت للإسراع في إنجاز القرض والاستجابة لشروط الصندوق، منها التخفيض المستمر للجنيه مقابل الدولار، تمهيدا لإجراء تعويم ثانٍ على غرار ما حدث في نوفمبر 2016، ورفع الدعم تدريجيا عن الوقود والخدمات، عبر زيادة أسعار البنزين والسولار والغاز والمياه والكهرباء والمواصلات العامة وغيرها.
وقبلها الحصول على ودائع خليجية بقيمة 13 مليار دولار من السعودية وقطر والإمارات، تمت إضافتها لاحتياطي البنك المركزي المصري، إضافة إلى الإسراع في بيع أصول مملوكة للدولة للصناديق السيادية الخليجية بقيمة تجاوزت قيمتها 3.3 مليارات دولار.
لكن الجديد هنا هو تصريحات وزير المالية، محمد معيط، التي نقلتها وكالة "بلومبيرغ " الأميركية اليوم الأحد، وتوحي بأن قرض الصندوق سيتأخر بعض الشئ، وأنه "قد تتمكن مصر من التوصل إلى اتفاق للحصول على دعم صندوق النقد الدولي في غضون شهر أو اثنين" حسب قول الوزير، وهذا يعني أن إنجاز الاتفاق خلال فترة شهرين غير مؤكد.
تصريحات معيط توحي بأن هناك تعثرا في المفاوضات الجارية، أو على الأقل عدم حدوث تقدم ملحوظ
تصريحات معيط توحي بأن هناك تعثرا في المفاوضات الجارية، أو على الأقل عدم حدوث تقدم ملحوظ، عكس ما أوحى بذلك كل من مدبولي وأزعور في وقت سابق.
ولذا فإن الحكومة تبحث عن بدائل سريعة لقرض الصندوق، منها بيع أصول بقيمة 6 مليارات دولار قبل نهاية شهر يونيو/حزيران المقبل كما قالت هالة السعيد اليوم بمدينة نيويورك، والدخول في مفاوضات مع بعض الدول، وفي مقدمتها الصين واليابان، للحصول على قروض جديدة وبتكلفة ميسرة، وطرح سندات في الأسواق الدولية.
في ظل تصريحات وزير المالية الجديدة فإن أول سؤال يطرح نفسه: ماذا يدور في الغرف المغلقة بين الحكومة والصندوق، ولمَ كل هذه المفاوضات الشاقة والتي بدأت منذ شهر مارس الماضي عقب اندلاع الحرب الأوكرانية ولم تنته بعد.
بل إن رئيس الحكومة المصرية أكد قبل أسابيع أن المفاوضات بدأت قبل الحرب، وتحديدا منذ شهر يوليو 2021، عقب انتهاء الاتفاق السابق مع الصندوق، والذي حصلت مصر بموجبه على قروض بقيمة 20 مليار دولار.
لا أحد يعرف التفاصيل وقبلها الإجابة عن تلك الأسئلة الكثيرة، ولا أحد يعرف سر تعنت الصندوق هذه المرة مقارنة بالمرة السابقة، والتي وافق فيها على منح مصر 12 مليار دولار في نهاية العام 2016 بعد أسابيع قليلة من المفاوضات.
ما الذي يريد الصندوق فرضه على الحكومة المصرية، وما الذي ترفض الحكومة الالتزام به؟ هل يمثل شرط رفع الدعم عن رغيف الخبز عائقا أمام إتمام المفاوضات رغم ما قيل عن تغهم الصندوق لمخاوف الحكومة، أم أن الأمر يتعلق بتوسيع دور القطاع الخاص والحد من الاحتكارات الموجودة في السوق، أم أن هناك أسباب أخرى لا نعلمها؟
لا أحد يعرف سر تعنت الصندوق هذه المرة في المفاوضات مع مصر مقارنة بالمرة السابقة
هل الظروف المحلية والإقليمية والعالمية لها دور في تعنت الصندوق في المفاوضات الجارية، وهل قدوم جو بايدن لسدة الحكم في الولايات المتحدة له دور في عرقلة المفاوضات، مقارنة بسلفه ترامب الذي كان يعطي شيكا على بياض لمثل هذه القروض، هل موقف مصر من الحرب الأوكرانية والإيحاء الأميركي بوقوفها على الحياد له دور في هذه العرقلة؟
أسئلة كثيرة لا تجد إجابة وافية، وفي كل الأحوال فإن المواطن يقف حائرا وسط موجة غلاء غير مسبوقة، وتراجع متواصل لقيمة الجنيه مقابل الدولار، وزيادة مستمرة لمعدل التضخم، وتآكل مستمر للقدرة الشرائية، وفرص عمل أقل، خاصة في قطاعات جذابة للعمالة مثل العقارات والبناء والتشييد.