مصر نحو التقشف بعد إنفاق مفرط لعشر سنوات

14 يوليو 2023
التقشف يطاول العديد من المشاريع (خالد دسوقي/ فرانس برس)
+ الخط -

بعد عشر سنوات من البذخ، أعلنت الحكومة المصرية عن خطة للتقشف تطاول المصروفات العامة، تعهدت تنفيذها بقسوة. صدر الإعلان من المكان الخطأ، حيث انتقل مجلس الوزراء إلى العاصمة الإدارية، التي لطالما تفاخرت السلطة بأنها ستكون الأحدث والأكثر فخامة بين عواصم العالم، بينما أصبحت في عيون الاقتصاديين والساسة وعموم الناس رمزا للإنفاق المفرط والإسراف المالي الذي شكل فقاعة مالية ضخمة، والذي خلف ديونا أجنبية تصاعدت بشدة إلى 162.9 مليار دولار في العام 2022، وأخرى محلية تمتص إجمالي موارد الموازنة العامة للدولة.

تستهدف الخطة كما شرحها رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي في مؤتمره الصحافي الذي عقده أخيراً، لتبشير المواطنين بقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية الدولية، وحصيلة بيعه عددا من الشركات العامة، لسداد الديون وتمويل العجز في موارد الموازنة الجديدة لعام 2023-2024، بوقف تنفيذ مشروعات تبلغ قيمتها 247 مليار جنيه.

قرر مدبولي استبعاد تنفيذ أية مشروعات أساسية جديدة، مع استكمال التي انتهت بنسبة 70 في المائة. استبعد مدبولي المشروعات التي تحتاج إلى مكون دولاري أجنبي، مع حظر الاستثمار في مشروعات الإسكان والمرافق، والنقل والطرق والاتصالات، ومنح أولوية للمشروعات التي تقيمها الدولة مع القطاع الخاص.

عصر النفقات

ألقت خطة الحكومة بحجر كبير في بحر دولة وقع 60 في المائة من سكانها في الفقر، ويعتصر الفقر المدقع 50 في المائة منهم، وفقا لمعدلات الدخل الدولية، المحددة من البنك الدولي. أكد رئيس الوزراء وقف الاستثمار في 21 محطة مياه للشرب، في وقت شطبت وزارة التموين نحو 10 ملايين أسرة من بطاقة الدعم التمويني، وتعمل على إصدار بطاقة موحدة، لشراء الخبز المدعم لنحو 64 مليون شخص، ليكونوا دون غيرهم القادرين على الحصول على المدعمة.

انحدرت مخصصات التعليم إلى معدلات قياسية، من 4.1 في المائة، عام 2013 إلى 1.6 في المائة من الناتج القومي لعام 2023، وفقا لبيانات جهاز التعبئة والإحصاء الحكومي والبنك الدولي. تبحث الحكومة عن مشاركة القطاع الخاص في إنشاء المدارس والمستشفيات بنظام PPP، الذي يسمح بالبناء والإدارة والتملك لمدة محددة، تمتد إلى 30 عاما، تعمل الحكومة على زيادتها إلى 50 عاما دفعة واحدة أو السماح بمضاعفة المدة الأولى.

أوقفت الحكومة الاستثمار في بناء الجامعات العامة، واتجهت إلى مشاركة القطاع الخاص في بناء الجامعات الأهلية بالمصروفات، لتهرب من التزام دستوري يمنح المصريين حق التعليم المجاني بكل مراحله.

تسير الحكومة وفق برنامج صارم تعهدت به مع صندوق النقد الدولي، مفاده "لا مشروعات جديدة"، بعد أن وقعت الدولة في فخ الديون الباهظة وهائلة التكاليف منذ بدأت مرحلة التعويم الأول في قيمة الجنيه عام 2016، يدفعها إلى تعويم جديد متوقع خلال أسابيع، يهوي بالجنيه الذي فقد نحو 50 في المائة العام الماضي و20 في المائة منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، ليتراجع من جديد، بنحو 20 في المائة وفقا لتقديرات وكالة " فيتش" للتصنيف الائتماني.

تدهور تصنيف الاقتصاد المصري إلى فئة بي سالب، أدى إلى كشف عورات أهم البنوك المحلية، حيث تم سحب نحو 40 مليار دولار من صافي الأصول الأجنبية بالنظام المصرفي خلال العامين الأخيرين.

بيع الأصول

كشف رئيس الوزراء عن مخطط لبيع أصول في 7 شركات عامة بقيمة 1.9 مليار دولار خلال الأسابيع الماضية. أكدت هالة السعيد وزيرة التخطيط ورئيسة الصندوق السيادي المكلف بإتمام بيع الأصول العامة للمستثمرين الأجانب والمصريين، أن المباحثات حول تلك الصفات ظلت سرية للحفاظ على معلومات الشركات وقيمة الأصول المطروحة. شملت المشروعات المباعة شركات بترول وكيماويات والحديد والصلب وأصول فنادق تاريخية، لم يفصح عن تفاصيلها.

وأوضح مدبولي وجود طروحات لبيع مزرعة رياح على ساحل البحر الأحمر، ومحطة كهرباء بني سويف، وبيع نسبة من مؤسسة "وطنية للبترول" التابعة للجيش، وبيع حصص في 21 محطة تحلية مياه بقدرة 3.3 ملايين متر مكعب يوميا. تستهدف الخطة جذب استثمارات بقيمة 3 مليارات دولار، حتى عام 2025. أكد مدبولي أن برنامج بيع الأصول العامة لم يعد مرتبطا بالوثيقة التي تستهدف بيع 32 شركة، وإنما أصبح مبدأ ثابتا للدولة المصرية، التي تريد إفساح الفرص كاملة أمام القطاع الخاص ليقود الاستثمار في 79 نشاطاً اقتصادياً.

بين رئيس الوزراء اتفاقه مع مؤسسة التمويل الدولية IFC، على إعداد خطة لبيع 50 شركة أخرى خلال السنوات الخمس المقبلة.

تعد الحكومة بزيادة تدفقات العملة الصعبة إلى 191 مليار دولار بحلول عام 2026، بزيادة سنوية قدّرها مدبولي بـ 70 مليار دولار سنويا، مستهدفا زيادة الصادرات والسياحة بنسبة 20 في المائة وتحويلات المصريين والاستثمارات الخارجية ودخل قناة السويس وخدمات التعهيد والتكنولوجيا بنسبة 10 في المائة على مدار السنوات الثلاث المقبلة.

وقال مدبولي إنه شكل لجنة لإدارة الدين العام، بمجلس الوزراء، تستهدف التشدد في ضوابط الاقتراض التي لن تمر إلا من خلال موافقة "لجنة الدين" وضمان استحداث موارد جديدة للعملة الصعبة، وتحسين شروط الدين. تغطية العجز في الوقت نفسه بين محمد معيط وزير المالية، عن استهدافه تغطية العجز المزمن في الموازنة العامة الجديدة والمقبلة، من خلال اقتراض نحو 3 مليارات دولار، قبل نهاية 2023.

أرجع معيط استمرار تزايد أزمة الديون إلى ارتفاع سعر الصرف والفائدة البنكية، في تلميح مباشر كرره مؤخرا، إلى خطأ السياسات النقدية التي اتبعتها حكومته خلال الفترة الماضية التي رفعت معدلات الدين إلى نحو 98 في المائة من ناتج الدخل القومي، في وقت تزايدت فيه إيرادات الموازنة العامة بنسبة 11 في المائة، مدفوعة بزيادة الإيرادات الضريبية.

بلغت إيرادات الضرائب 1.2 مليار دولار، قيمة إيرادات يتحمل أغلبها 77 في المائة من المواطنين، من الواقعين في براثن الفقر وفقا لدراسات بحثية أجراها محللون اقتصاديون، عام 2022. تبلغ المصروفات الإجمالية بالموازنة وفقا لمعيط نحو 2.13 تريليون جنيه، بما يتطلب تغطية العجز عبر المزيد من القروض المحلية والدولية.

لم تفصح الحكومة عن معلومات عن موقف المشروعات طويلة الأجل التي تنفيذها منذ سنوات، خاصة المتعلقة باستكمال القصور الرئاسية ومدينة الفنون والملاهي ومدينة الألعاب الأولمبية وشواطئ العلمين السياحية، والقطار السريع الممتد بين الإسكندرية شمالا إلى أقصى جنوب وادي النيل، والمونوريل، والطرق المرتبطة بها والتي أنفقت عليها الحكومة نحو 8 تريليونات جنيه، وفقا تقديرات حكومية، منذ عام 2014، وتحتاج إلى مليارات الدولارات، للانتهاء من إتمام تنفيذها.

تكشف تصريحات وزير النقل كامل الوزيري أن الحكومة سائرة نحو الانتهاء من تلك المشروعات، بالتعاون مع شركاء دوليين، بينما توفرت تمويلات مشروعات الإسكان المتوسط ومنخفض التكاليف الذي تموله هيئة المجتمعات العمرانية والمحافظات الذي يخدم الأغلبية الكاسحة من المواطنين الباحثين عن سكن مناسب.

وأعلن البرلمان الذي انفضت جلساته عن انعقاده بمقره الجديد في العاصمة الإدارية في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، ليتم بذلك خروج الحكومة من وسط القاهرة، بكل مؤسساتها التنفيذية والبرلمانية، تكلف الدولة أكثر من 4 مليارات جنيه لإيجار مكاتب الوزراء من شركة العاصمة سنويا، عدا تكاليف التشغيل والنقل المتزايدة من الموازنة العامة.

تأثير على المواطنين

يعتبر تامر سحاب عضو تحالف التيار الحر برنامج التقشف الحكومي "مثيرا للريبة" لأنه جاء دون مناقشة عامة من الشعب أو طرحه على البرلمان، ليعلم النواب تفاصيله، والحكم على مدى ملاءمته لأغلبية المواطنين.

شرح سحاب في تصريح لـ" العربي الجديد" أن توجه الحكومة نحو إفساح إدارة الاقتصاد للقطاع الخاص مؤشر جيد على ضرورة تخلص الاقتصاد من المعاملات التمييزية التي تمتعت بها الجهات الحكومية والسيادية، خلال الفترة الماضية، وبما يسمح بحرية السوق ودعم ثقة المستثمرين في ضخ أموال جديدة وجلب العملة الصعبة من الخارج، منوها إلى ضرورة مرور صفقات البيع للأصول العامة على البرلمان، ومعها خطط التقشف التي ستؤثر على دخل المصريين وقدرتهم على تحمل أعباء الديون العامة وتراجع الدخول، وزيادة التضخم التي بلغت معدلات غير مسبوقة تاريخيا خلال الفترة المقبلة.

حذر سحاب من أن تؤثر عمليات التقشف وخصخصة الخدمات العامة، على حق الناس في الحصول على العلاج عبر التأمين الصحي الشامل، أو تحسين الأداء بالمدارس وتوفير السلع الأساسية بأسعار مناسبة لدخول المواطنين. أضاف: "إذا كانت الحكومة مضطرة للبيع فعليها أن تلتزم بالشفافية في الإجراءات والسياسات المتبعة واعلام الشعب بالتفاصيل، حيث لا توجد أي مبررات للسرية في التعامل مع المال العام".

انتقدت مصادر "العربي الجديد" الخروج الكامل والمفاجئ للدولة من كافة الأنشطة الاقتصادية، بعد أن أدت التدخلات الحكومية إلى تراجع كبير في دور القطاع الخاص خلال العقد الماضي، مشيرين إلى تعطل أغلب المصانع عن العمل، ودخول الشركات غير النفطية في حالة ركود منذ 3 سنوات، لن تخرج منها دون حلول جذرية لقضية تحرير سعر الصرف وتداول العملة الصعبة.

أشارت المصادر إلى أن القطاع الخاص لن يتمكن من العمل دون الإفراج عن الواردات التي أدت إلى ندرة في الخامات ومستلزمات الإنتاج والتصنيع والخدمات بكافة أنواعها، وقادت إلى تضخم هائل بلغ نحو 37 في المائة لأول مرة في تاريخ رصد بيانات أسعار المستهلكين، وزيادته عن 40 في المائة بالتضخم الأساسي للبنك المركزي.

وتخوفت مصادر استثمارية من ضخ أموال جديدة في الاقتصاد دون تخفيض آخر في قيمة العملة تستهدف توحيد سعر الصرف، وتعهد الحكومة بالحفاظ على سعر صرف مرن، يمنحهم القدرة على الحصول على الدولار أو تصدير فوائضهم المالية لبلدانهم، دون مشقة الانتظار لفترات طويلة في طوابير البنوك الرسمية. 

المساهمون