تجري الحكومة المصرية جولة جديدة حاسمة من المفاوضات مع خبراء صندوق النقد الدولي، خلال الأيام المقبلة، تمهيدا لاستكمال البرنامج الثالث مع الصندوق الموقّع في ديسمبر 2022، والذي كان يقضي بتوفير نحو 3 مليارات دولار، والاتفاق على برنامج رابع، يتيح للحكومة الحصول على قرض تتراوح قيمته بين 7 مليارات و9 مليارات دولار.
تمثل عودة المفاوضات مع الصندوق للحكومة طوق نجاة لإنقاذ الاقتصاد من أزمة مالية خانقة، ويعتبرها برلمانيون واقتصاديون موالون للنظام، خطوة مهمة لإتمام إصلاح هيكلي للاقتصاد، لتحويله إلى اقتصاد قادر على زيادة الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي وتوليد فرص العمل والعملة الصعبة.
بينما يخشى محللون من أن تستغله الحكومة في الحصول على مزيد من القروض، بما يبقي البلاد رهينة في فخ الديون.
يمهد الاتفاق مع صندوق النقد تعويما جديدا للجنيه، ووضع خطط محددة لصفقات بيع الأصول العامة، المدرجة في وثيقة الملكية العامة، حيث تعهدت الحكومة للصندوق بالخروج من 73 نشاطاً استثمارياً، وبيع أكثر من 50 شركة عامة وتابعة للجيش، قبل نهاية 2025.
وقالت كريستالينا غورغيفا، مديرة صندوق النقد الدولي، في مؤتمر صحافي عقد بواشنطن في ساعة متأخرة مساء الخميس: "نحن الآن في المرحلة الأخيرة للغاية، حيث نعمل بشأن تفاصيل التنفيذ.. لقد اقتربنا للغاية.. لا نتحدث بشأن فترة مطولة على الإطلاق"، مضيفة أن المحادثات تمثل "أولوية قصوى" بالنسبة لصندوق النقد، نظراً لأهمية مصر بالنسبة للمنطقة.
كذلك توقعت غورغيفا، على هامش اجتماع وزراء المالية لمجموعة العشرين في البرازيل، الأسبوع الماضي، أن يفرج الصندوق، خلال أسابيع، عن المبالغ المقررة لمصر، ضمن برنامج قرض بقيمة 3 مليارات دولار، معطل تنفيذه منذ إبريل/نيسان 2023، بالتوازي مع وضع اللمسات النهائية لحزمة تمويل إضافية.
وأفصحت عن استكمال مراجعة الصندوق لبرنامج إصلاح الاقتصاد الموقّع مع مصر في ديسمبر/كانون الأول 2022، ووجود خطط لزيادته، لمساعدتها في مواجهة تأثير الحرب في غزة والصدمات الخارجية التي نتجت عن تدهور الأوضاع في المنطقة والبحر الأحمر، وتراجع عوائد قناة السويس بنسبة 55% إلى 60%، والسياحة، وانخفاض متوقع بالنمو لعام 2024، بمقدار 0.6%، ليصبح عند حدود 3%.
تأمل الحكومة أن ترتفع قيمة الاتفاق الجديد مع صندوق النقد إلى نحو 12 مليار دولار، لمساعدتها في مواجهة شح العملات الصعبة، ورفع معدل النمو إلى مستوى 4% خلال العام المالي 2024/2025.
قال علي الإدريسي الخبير الاقتصادي لـ"العربي الجديد" إن وصول الدفعة الأولى من قيمة صفقة بيع مدينة "رأس الحكمة" لصالح الصندوق السيادي في الإمارات، جاء في الوقت المناسب، بما يمنح البنك المركزي القدرة على توفير النقد الأجنبي الذي يحتاجه المستثمرون والموردون، للإفراج عن البضائع المكدسة في الموانئ، ومواجهة أثر التعويم المرتقب للجنيه، للقضاء على ظاهرة وجود أكثر من سعر للدولار في الأسواق، والبدء في تسوية حقوق المستثمرين المتأخرة بالعملة للصعبة.
يربط الإدريسي بين دور صفقة "رأس الحكمة" والاتفاق الجديد المرتقب مع صندوق النقد، مؤكدا أن الدعم المالي الذي قدمته الإمارات، يأتي في إطار صفقة سياسية، لإنقاذ الاقتصاد المصري، كامتداد لمرحلة الدعم العاجل الذي قدمته كل من الكويت وقطر والسعودية، على مدار السنوات الماضية.
أكد الخبير الاقتصادي أن العلاقات السياسية والدبلوماسية الجيدة مع دول الخليج، لها دور مهم في إتمام تلك الصفقات الاستثمارية، كالتي تمت في صفقة "رأس الحكمة"، بالإضافة إلى وجود قناعة لدى تلك الدول بأن مصر لديها فرص واعدة للاستثمار ستعظم من مكاسبهم.
يتوقع الإدريسي أن يجري تعويم جديد للعملة خلال الأيام المقبلة، في خطوة استباقية لتوقيع اتفاق رابع مع صندوق النقد، بعد أن وصل الدولار في السوق الموازية، إلى مستوى ما بين 45-46 للجنيه نهاية الأسبوع الماضي، وهي الحدود المقبولة لقيمة الجنيه، مشيرا إلى أن الاقتصاد لن يستقيم وضعه طالما ظل هناك أكثر من سعر للدولار في الأسواق.
يشير محللون إلى أن التزام الجانب الإماراتي بتوفير قيمة الدفعة الأولى من صفقة رأس الحكمة، نهاية الأسبوع الماضي وضخ 35 مليار دولار خلال شهرين في البنك المركزي، ساهم في خفض متوسط العائد على السندات المصرية إلى أقل من 10% نهاية الأسبوع الماضي، ورفع سندات الحكومة بالدولار بشكل ملحوظ، ورفع قيمة الجنيه في العقود الآجلة لمدة 12 شهرا بأكثر من 17%، مع تراجع قيمة الدولار مقابل الجنيه، ومبادلة 11 مليار دولار من قيمة الصفقة بالجنيه، بما يقلص التزامات مصر الخارجية بنسبة 7%، ويمهد الطريق لتوقيع اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي.
وكان الدولار قد قفز في السوق السوداء خلال الأسابيع الأخيرة إلى نحو 73 جنيهاً، بينما يتداول في البنوك عند أقل من 31 جنيها. ويؤكد اقتصاديون أن الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد المصري اليوم تعد بيئة مواتية للصندوق ليفرض إملاءاته وعقيدته المالية التي تنظر إلى سياسيات سعر الصرف الحر باعتبارها ركنا أساسيا لها، بينما الاقتصاد المصري يحاول عبور منطقة العتمة بفك الأزمة التي تصاعدت خلال العامين الماضيين، باللجوء إلى بيع مساحات هائلة من الأراضي والمباني التاريخية والشركات العامة.
يبدي اقتصاديون مخاوفهم من توريط الحكومة الدولة في قروض جديدة مع صندوق النقد، وسعيها لمزيد من القروض من الاتحاد الأوروبي والتوسع في إقامة مشروعات عامة بقروض باهظة التكلفة من روسيا والصين، منوهين إلى فشل اتفاق الحكومة الأول الذي أجرته مع صندوق النقد عام 2016، لتنفيذ برنامج وطني للإصلاح الاقتصادي.
يبين الخبراء أن الحكومة تعهدت بتعزيز النمو الاقتصادي المستدام، من خلال السيطرة على العجز في الموازنة العامة، بالحد من الإنفاق العام وزيادة الإيرادات العامة، وإفساح المجال أمام القطاع الخاص ليصبح قاطرة النمو، مع تخفيف تواجد الجيش والمؤسسات العامة في النشاط الاقتصادي، ولم تلتزم به بما أدى إلى تضاعف مستويات التضخم، جراء اتفاق البنك المركزي مع صندوق النقد على خفض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، بنسبة الضعف، حيث وصل سعر الدولار من 7.5 جنيهات إلى 17.8 جنيها رسمياً، بينما ظل مستقرا في السوق الموازية عند نحو 15.7 جنيها مع بداية التعويم قبل نحو 8 سنوات.
يرى محللون أن الحكومة وظّفت ثناء خبراء صندوق النقد على الحكومة خلال فترة الاتفاق الأول عام 2016، والثاني بقيمة 12 مليار دولار، لمواجهة وباء كورونا عام 2020، للتوسع في الاقتراض بشهية مفرطة من الخارج، دون أن يسلط الصندوق الضوء على مكامن الاختلال والمخاطر التي كانت تكتنف الاقتصاد المصري، رغم توسع الحكومة في الإنفاق على مشروعات بنية أساسية عملاقة ليست ذات جدوى وعلى التسليح. عد الخبراء مصر ثاني أكبر دولة مدينة لصالح صندوق النقد الدولي، بقروض تخطت 40 مليار دولار خلال 8 سنوات فقط.
فقد الجنيه 70% من قيمته في الربع الأول من عام 2022، بما جعله أسوأ العملات أداء على مستوى العالم، وواصل تراجعه خلال عامي 2023 و2024، مع ظهور سوق موازية تجاوز فيها الدولار 70 جنيها، بينما ظل مستقرا عند مستوى أقل من 31 جنيها في البنوك، مع تراجع احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية، من 44.6 مليار دولار عام 2019 إلى نحو 34 مليار دولار 2024.
يشير محللون إلى تضاؤل تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث بلغ 11 مليار دولار عام 2020، بالمقارنة بنحو 90 مليار دولار لجنوب أفريقيا، و70 مليار دولار للبرازيل، و50 ملياراً للهند، مع معاناة من عجز تجاري مزمن، سجل 37 مليار دولار بنهاية 2023، انخفاضا من 48 مليار دولار في 2024.
قفزت الديون الخارجية إلى ما يقرب من 5 أضعاف خلال السنوات العشر الماضية من نحو 34 مليار دولار إلى 164.52 مليار دولار بنهاية سبتمبر/أيلول الماضي، مع زيادة الدين المحلي من 1.6 تريليون إلى 6.5 تريليونات جنيه، خلال نفس الفترة، مع توجه الحكومة إلى الإنفاق المفرط على مشروعات بنية أساسية وعقارية، غير مدروسة ومنخفضة العائد، عبر قروض متوسطة وقصيرة الأجل، أدت إلى تدهور الثقة في الاقتصاد، وقدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها تجاه المستثمرين والجهات المقرضة، بما أخضعها لشروط المقرضين.
في ظل أزمة مالية خانقة وممتدة، والخيارات المتاحة للخروج منها، أحلاهما مر.يؤكد حازم رحاحلة، مستشار اقتصادي في البنك الدولي، في تحليل حول الأزمة الاقتصادية في مصر صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الخميس الماضي، أن مصر تحتاج إلى إبرام اتفاقات جديدة مع صندوق النقد أكثر من أي وقت مضى، ليس بغرض الحصول على القرض الذي تتراوح قيمته ما بين 3 و12 مليار دولار، بل لتمكين الحكومة من الحصول على قروض ومساعدات أوسع بشفاعة الصندوق.
يتوقع رحاحلة أن يكون التفاوض مع الصندوق هذه المرة "أشد صرامة وتصميما على الالتزام بتنفيذ أولويات إصلاحية قد تبدو قاسية على القطاع الاجتماعي"، منوها إلى أن الحكومة ستجبر على خفض قيمة الجنيه، وتحرير سعر الصرف، لاستعادة قدرة الاقتصاد على جذب الاستثمارات الأجنبية، وانتظام تحويلات المصريين في الخارج، التي تراجعت بنسبة 30% عام 2023، لتخسر نحو 10 مليارات دولار، في عام واحد، مع الحاجة إلى تدبير مبالغ كبيرة للإنفاق على الفئات الاجتماعية الفقيرة والأولى بالرعاية.
وتظهر دراسة تحليلية أجرتها عالية المهدي، عميد كلية الاقتصاد في جامعة القاهرة، لمعدلات الفقر والتضخم في مصر على مدى 100 عام، وقوع نسبة عالية من الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل في براثن الفقر، مع التراجع الشديد في قيمة الجنيه والدخل، خلال العامين الماضيين، في ظل عدم ارتفاع مستوى الدخول بنفس المعدلات التي شهدها تراجع الجنيه وغلاء الأسعار.
وأكدت الدراسة أن التزام الحكومة بسياسات صندوق النقد الدولي التي تركز على تعويم الجنيه ورفع معدلات الفائدة للحد من التضخم، دون أن تعمل على إعادة هيكلة الاقتصاد ليتجه نحو التنمية الشاملة، سيدفع المزيد من المواطنين تحت خط الفقر، بينما تزداد ثروات الفئات الأكثر غنى، ويزداد الفقراء فقراً.
كما تشير دراسة تحليلية أجراها "المجلس الأطلسي" حول "لغز الاقتصاد السياسي في مصر"، إلى أنه على الرغم من كل المزايا الكامنة فيه، من ثروات تاريخية وثقافية وبشرية، فإن الاقتصاد يتصارع مع تحديات مستمرة منذ نحو 75 عاما، حيث لا تزال معدلات الفقر المرتفعة مصدر معاناة للمواطنين، مع زيادة نسبة السكان تحت خط الفقر من 25.2%، عام 2010 إلى 32.2% عام 2018.
تبين الدراسة تفاقم هشاشة الاقتصاد، لاعتماده على مصادر إيرادات متقلبة، بما فيها السياحة وتحويلات المصريين بالخارج، في وقت يتعرض لصدمات خارجية عديدة، مثل وباء كورونا، وحرب أوكرانيا المستمرة منذ فبراير/شباط 2022، والعدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة، والاضطراب الأمني في البحر الأحمر.