تحولت قضية القمح إلى صداع مزمن في رأس الحكومة المصرية، جعلت أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم، تسير على حافة الهاوية، بين متحاربين -روسيا وأوكرانيا- ظلا لسنوات، أكبر مصدرين لوارداتها، ودول لديها فائض، تسعى لحظر صادراتها، وأخرى تريد فكه، مع انزلاقها بين 50 دولة، إلى كوارث اقتصادية واجتماعية، ومزارعين لم تفلح سياسة العصا والجزرة في إجبارهم على تسليم محصولهم بسهولة.
انتهى موسم حصاد القمح رسمياً، بعد جني المحصول من مساحة 3.6 ملايين فدان، هي كل الأراضي التي زرعت قمحاً، خلال موسم 2022، كما أعلنت وزارة الزراعة. وورّد المزارعون 4.1 ملايين طن، من إنتاج يقدَّر بنحو 10 ملايين طن. سجّل التوريد المحلي رقماً قياسياً، لأول مرة، وفقاً لبيان وزارة التموين، ومع ذلك لم تصل التوريدات إلى الكميات التي حددتها الدولة، بنحو 6 ملايين طن، بينما تقدَّر احتياجات البلاد بـ 20 مليون طن، حتى نهاية مايو/ أيار 2023.
استمد قرار وزير التموين علي مصيلحي بالتوريد الإجباري، لمحصول القمح، بنوده من قانون للأحكام العرفية، رقم 45 لسنة 1945، طبق مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حينما أوشكت البلاد على مجاعة. القانون القاسية شروطه، كشف عن الإعصار الاقتصادي وصدمة الغذاء وحجم الانكشاف الخطير الذي تتعرض له مصر، في محصول القمح، في وقت ترتفع الأسعار عالمياً، مع النقص الشديد في النقد الأجنبي، وعجز بالموازنة، والحاجة إلى شراء القمح نقداً، من الخارج والداخل.
وأصبح الوقت غير مناسب لإلغاء دعم الخبز، بينما كانت الحكومة تتجه إلى تنفيذه، مطلع الشهر المقبل، مع دق مؤسسات دولية نواقيس الخطر، للتحذير من أن ارتفاع الأسعار "يزيد من مخاطر تغيير النظام في العديد من الدول الأفريقية".
دفعت عناصر الأزمة الخانقة الحكومة، إلى السير على حبل مشدود، بين أطراف الأزمة كافة. تكشف "العربي الجديد" كيف سارت مصر على شفا جرف هار، بصعوبة بالغة، خلال الأسبوعين الماضيين، أملاً في تدبير حاجتها من القمح، حتى نهاية العام على الأقل.
تدخل مجلس النواب – دون أن يدري – في تخفيف قبضة الدولة الأمنية على المزارعين، الذين تباطأوا عن تسليم محصول القمح إجبارياً. تقدم عدد من النواب بإلقاء بيانات عاجلة، لمطالبة الحكومة، بضرورة رفع سعر توريد القمح من المزارعين. تساءل البرلماني إيهاب رمزي، عن أسباب لجوء الحكومة إلى استيراد القمح من الخارج، بمتوسط 1250 جنيهاً للأردب (الطن= 6.6 أردبات) بينما تدفع للفلاح المصري 870 جنيهاً فقط (الدولار = نحو 18.75 جنيهاً).
أوضح رمزي أن فدان القمح يتكلف نحو 15 ألفاً و300 جنيه، كحد أدني، بينما لا يتجاوز سعر البيع للإنتاج 16 ألفاً و275 جنيهاً. وبَيّنَ رمزي أن ربح المزارع لا يتجاوز 975 جنيهاً، عن فترة عمل تستغرق 6 أشهر، بما يعني أن دخل الفلاح، في حدود 162.5 جنيهاً شهرياً، ويقدَّر بنحو 5.4 جنيهات يومياً. عبّر النائب عن غضبه بعد أن بلغ الأمر بالفلاح المصري، أن يكون حاله المادي مثيراً للشفقة، لحصوله على "دخل مخزٍ" لا يتماشى مع التكلفة وتعبه، في وقت تطلب منه الحكومة أن يتنازل إجبارياً عن قمحه ليوفر الغذاء للآخرين.
انضم إلى رمزي النائب عصام العمدة، مطالباً بإلغاء قرار وزير التموين رقم 10 لسنة 2022، الخاص بالتوريد الإجباري للقمح، مؤكداً أن الحكومة لا تملك معلومات حقيقية عن الأراضي المنزرعة بالقمح، في أنحاء البلاد، وأن القرار أضرّ بصغار المزارعين.
وفقاً لكلمات النواب، ليس لدى الحكومة حصر واقعي بنوعية الزراعات، بعد إلغائها نظام الدورة الزراعية، منذ سنوات طويلة، وعندما لجأت إلى التوريد الإجباري، في 16 مارس/ آذار الماضي، كان موسم الحصاد، قد أوشكت بدايته. من ناحية أخرى، كان الموظفون بالجمعيات الزراعية، ومديريات التموين والشرطة، الذين كلفتهم الحكومة ملاحقة المزارعين، وإجبارهم على توريد المحصول أو القبض عليهم ومصادرة أرصدتهم، خلال الشهرين الماضيين، على شفا مواجهة مصيرية، فإما أن يثبتوا للدولة ولاءهم للتعليمات وبراءتهم من التلاعب بقوائم حصر الزراعات، بدقة بياناتهم عن المحصول أو يدخلوا في مواجهة ساخنة، تخشى أن تتحمل الأجهزة الرقابية والأمنية تكاليفها، إذا ما غضب الفلاحون.
كشفت تقارير اللجان الأمنية المشكلة على نطاق واسع بالمحافظات، بقيادة المحافظين ومديري الأمن والزراعة والتموين والرقابة الإدارية، عن ضعف شديد في ملاحقة الرافضين لتسليم المحصول. فرغم تقدم عدد من نواب البرلمان، في شهر إبريل/ نيسان الماضي، بمطالبة الحكومة بملاحقة تجار القمح والمزارعين، بزعم حماية الأمن الغذائي للشعب، فإن رصد المخالفات توقف عند ضبط 7 أطنان يحاول تاجر بيعها خارج محافظة كفر الشيخ، وبلغت أكبر كمية في الضبطيات 229 طناً في محافظة سوهاج، وكان غريباً أن يطلب النائب محمود قاسم ضبط مصنع لـلوجبة الشعبية "الفريك والبرغل" في محافظة بني سويف، بتهمة التربح غير المشروع من الاتجار بالقمح، بينما المضبوطات الرسمية لم تتعدّ عدة أشولة، كما أشار محافظ الإقليم.
يعتز الفلاحون برغبتهم في مساعدة الحكومة على مواجهة أزمة خطيرة بالدولة، لكن كثيراً منهم يرون أن الحكومة تأخرت في طلبها للحل، لافتين إلى تعاقد كثيرين منهم، على بيع القمح للتجار، مطلع مارس، قبل صدور قرار التوريد الإجباري، مع حاجتهم إلى سداد مستلزمات الإنتاج، وضمان رفع المحصول من الأراضي بسرعة، في أثناء الموسم.
يذكر مزارعون في مقابلات مع "العربي الجديد" أن الحكومة عادة هي التي تؤخر تسلّم المحصول، من الذين يتقدمون به، فيقفون بسياراتهم أياماً أمام صوامع وزارة التموين، ومخازن الجمعيات الزراعية، لحين تسلّم إنتاجهم. ويذكرون أن الحكومة وفرت هذا الموسم قيمة المحصول نقداً، بعد 48 ساعة من التسليم، بينما كانت من قبل تدفع مستحقاتهم، بعد شهر وأكثر، ولذلك تصرفوا في المنتج، قبل قرار التوريد.
تكشف مصادر لـ"العربي الجديد" عن أزمة جديدة، تبين دور الحكومة في التسويف بملاحقة الرافضين للتوريد الإجباري. وأكدت المصادر، التي رفضت ذكر اسمها، امتلاء وحدات التخزين التي تملكها الحكومة بالقمح عن آخرها، بعد تسلمها 4.1 ملايين طن قمح محلي وشرائها 1.1 مليون طن آخرى من روسيا، خلال ذات فترة التوريد المحلي للقمح، من إبريل إلى مايو، بينما تبلغ السعة التخزينية القصوى في 44 صومعة ووحدة تخزين في أنحاء البلاد 5.4 ملايين طن.
توافق ذلك مع وجود احتياطي بالصوامع يقدر بنحو 1.8 مليون طن، حتى نهاية إبريل، طبقاً لبيانات وزارة التموين، شملت ما استوردته هيئة السلع التموينية بنحو 600 ألف طن قمح من روسيا خلال الفترة من يناير إلى إبريل. واشترت الهيئة 50 ألف طن من بلغاريا و240 ألف طن من رومانيا، و61.5 ألف طن من الهند، و55 ألف طن من فرنسا، خلال شهري مايو ويونيو.
يذكر مزارعون في مقابلات مع "العربي الجديد" أن الحكومة عادة هي التي تؤخر تسلّم المحصول، من الذين يتقدمون به، فيقفون بسياراتهم أياماً أمام صوامع وزارة التموين
يؤكد رئيس الشركة القابضة للصوامع، كمال هاشم، أن كميات القمح في الصوامع تكفي حاجة البلاد حتى نهاية العام الحالي، بينما تؤكد المصادر أن الحكومة فوجئت للمرة الأولى بأنها في حاجة إلى رفع السعة التخزينية للصوامع، حيث كانت تتفق من قبل على شراء القمح الأجنبي وتوريد شحناته، على فترات، عقب انتهاء موسم توريد المحصول المحلي.
وعقب فشل المباحثات، التي حاولت تركيا التوصل إليها مع روسيا الأسبوع قبل الماضي، بشأن السماح بوجود ممرات عبور آمنة، لشحنات القمح المتجهة، إلى ميناء أوديسا بأوكرانيا، رحبت مصر، بدعم مجموعة الدول الصناعية السبع، والاتحاد الأوروبي، لبرنامج توصيل القمح الأوكراني لمصر، عبر رومانيا وبولندا، وفي الوقت نفسه منحت شركات الشحن الدولية، الموافقة على نقل القمح من ميناء "كافاز" الروسي على البحر الأسود لأول مرة.
واعتذرت الشركة الوطنية للملاحة عن عدم نقل القمح من الموانئ الروسية أو الأوكرانية، خوفاً من إقحام مصر في مشكلة الحرب، أو اتهامها بتهريب القمح الذي تنقله روسيا من أوكرانيا، واشترطت على الموردين توصيل الشحنات بوسائلهم، للموانئ المصرية.
وقالت مصادر لـ "العربي الجديد" إن مصر تتعامل بواقعية شديدة، مع أطراف الصراع كافة، لتضمن حصولها على القمح، بأية وسيلة، حيث تريد الدعم الأميركي، للحصول على قروض صندوق النقد والبنوك الدولية والعربية، لدفع تكاليف ارتفاع أسعار القمح والسلع الغذائية والطاقة، التي أضافت نحو 10 مليارات دولار إلى الميزانية الجديدة، مع موالاة روسيا في مواقفها السياسية.
كذلك طلبت من منظمة التجارة الدولية التدخل لدى الهند التي تسعى لحظر تصدير القمح، نكاية بالغرب الذي رفض منح الدول صلاحية تصنيع لقاحات وباء كورونا، بينما تواجه مصر وغيرها من الدول الفقيرة أزمة في الغذاء، لن يتحمل الغرب تكاليفها، وفي الوقت نفسه، حظرت مصر تصدير القمح ومنتجاته، وكل الحبوب والزيوت.