يمكن التعرف على الواقع الحالي في مصر من خلال رصد ستة مشاهد تعكس بدقة ما يدور على الأرض، وبعيدا عن الصورة الوردية التي ترسمها بعض وسائل الإعلام وكبار المسؤولين في الدولة، صورة تفرق بين القابعين في جمهورية الساحل الشمالي، وهم أقلية، وبين الكثرة الساحقة التي تعيش داخل جمهورية أمبابة وأخواتها.
1- عشرات الفيديوهات المنتشرة مؤخراً وفيها يخرج علينا رجال وسيدات يؤكدون أمراً واحداً هو أنهم فشلوا في تدبير وجبة طعام واحدة تسد جوع أولادهم بسبب الغلاء الفاحش، وأنه حتى أطعمة الفقراء من فول وبيض وعدس وأرز وغيرها باتت عصية في الحصول عليها، وأن الدخل بات لا يكفي لتغطية أيام عدة من احتياجات الشهر.
وأن الأسعار باتت فوق طاقة الجميع، وأن الملايين منهم انتقل من الطبقة الوسطى المستورة إلى الطبقة الفقيرة، بل إلى الطبقة المعدمة، وأن العديد منهم طلب مساعدات من الجمعيات الخيرية والمنظمات الأهلية، وأن تلك المؤسسات باتت غير قادرة على تلبية احتياجات الجميع، في ظل ضخامة الطلبات، وتراجع التبرعات.
الأسعار باتت فوق طاقة الجميع، وأن الملايين منهم انتقل من الطبقة الوسطى المستورة إلى الطبقة الفقيرة، بل إلى الطبقة المعدمة
2- وسائل إعلام تنقل لنا من وقت لآخر حالات مأساوية بسبب موجة الغلاء المتواصلة، وتآكل القدرة الشرائية للمواطن، وتهاوي العملة، وزيادة الأعباء المالية، فهذا باع كليته أو قطعة من جسده حتى يصرف على أولاده، وهذا أقدم على الانتحار، بعد أن شاهد الدموع في عين أولاده، بسبب قرصة الجوع، وثالث أقدم على قتل أولاده الصغار، لأنه لا يجد المال الكافي لإطعامهم وجبة واحدة!
3- جهاز التعبئة العامة والإحصاء الحكومي يكشف عن حدوث قفزات في أسعار الغذاء في مصر خلال يوليو/ تموز الماضي، قرب 70 بالمائة، وسط استمرار قفزات أسعار السلع والخدمات، وتدني القدرة الشرائية للمواطن، وزيادة الضغوط على العملة المحلية، وأن معدل التضخم السنوي قفز إلى أعلى مستوياته على الإطلاق ليصل إلى 38.2%، بل إن أسعار المستهلك المسجلة الشهر الماضي تعتبر الأعلى منذ 60 عاماً.
4- لا يتوقف الأمر بالنسبة لأغلب المصريين على الصدمات السابقة والحالية، فهناك صدمات في الطريق قد تكون أعنف مع إجراء جولة جديدة من تخفيض قيمة الجنيه المصري وتحرير سعره كاملاً مقابل الدولار، ومواصلة الحكومة زيادة الأسعار والرسوم والضرائب، وخفض الدعم، تمهيداً لإلغائه، والتوسع في سياسة بيع أصول الدولة من بنوك وشركات رابحة.
وربما نصل إلى مرحلة أخطر، وهي زيادة أسعار رغيف الخبز، وإجراء زيادات قياسية في أسعار السلع الغذائية الضرورية، مثل الأرز، والزيوت، والسكر، والشاي، وهذه كارثة بالنسبة لأكثر من 100 مليون مصري.
5- رجل يخرج علينا قبل أيام في فيديو محذراً كبار المسؤولين في مصر من اختفاء السجائر، وقال بلهجة جادة: "إلا الدخان يا حكومة، وإلا سيخرج لكم إلى الشوارع 20 مليون مدخن".
استغاثة المدخن لم تأت فقط على خلفية قفزات أسعار السجائر الأخيرة، بل جاءت على خلفية اختفاء بعض أنواع السجائر الشعبية مثل "كليوباترا"، ووعود حكومية لا تتحقق باستقرار سوق السجائر خلال أيام، وإلقاء المسؤولية على زيادة حالات التلاعب من قبل التجار.
تخرج علينا وسائل إعلام من وقت لآخر لتؤكد أن مصر تعوم على بحار من السيولة النقدية، وأن المصريين لديهم أموال تتجاوز تريليونات الجنيهات
6- تخرج علينا وسائل إعلام من فضائيات وصحف من وقت لآخر لتؤكد بشكل مباشر، أو غير مباشر، أن مصر تعوم على بحار من السيولة النقدية، وأن المصريين لديهم أموال تتجاوز تريليونات الجنيهات.
وتنقل تلك الوسائل ما تزعم أنه حالات إنفاق صارخة ومشاهد للإسراف والبذخ، فالمصريون سحبوا 35 مليار جنيه من ماكينات الصرف الآلي خلال إجازة عيد الأضحى الأخير، وهو رقم قياسي وتاريخي، والمولات التجارية مليئة بالمشترين والزبائن.
وهناك زحام شديد على الأسواق التجارية، وتدافع نحو شراء البراندات العالمية، وهناك سباق جماهيري نحو حجز الفيلات والقصور في العلمين ومارينا والمدن الجديدة، ومصر كلها موجودة في الساحل الشمالي.
بل تبالغ تلك الوسائل في نشر أخبار من نوعية ما كشفه أيمن عامر، المدير العام لشركة السادس من أكتوبر للتنمية والاستثمار- سوديك، نهاية الأسبوع الماضي، من تلقي الشركة طلبات شراء من مئات المواطنين الراغبين في الحجز في مشروع جون بالساحل الشمالي، وأن قيمة الطلبات بلغت قيمة 2.5 مليار جنيه خلال 3 أيام فقط، وأنه جرى حجز 55% من المشروع خلال الأيام الثلاثة.
السؤال: هل هناك رابط بين المشاهد الستة السابقة، والإجابة نعم، فهناك شرخ اجتماعي واقتصادي عنيف في مصر، طبقة ثرية باتت تملك كل شيء وتستمتع بأموالها المتنامية، رغم كل تلك الظروف الاقتصادية الصعبة، وأغلبية ساحقة لا تملك شيئاً. طبقة تتحمل بمفردها اجراءات تقشفية عنيفة وسياسة "نيوليبرالية" يفرضها صندوق النقد الدولي المقرض الأول للبلاد.
وسط هذا المشهد العبثي هناك من يحاول أن يصور للعالم الخارجي، بل للمواطن، أن المصريين يعيشون في رغد من العيش، وأن مصر تعوم على سيولة من الأموال
ووسط هذا المشهد العبثي هناك من يحاول أن يصور للعالم الخارجي، بل للمواطن، أن المصريين يعيشون في رغد من العيش، وأن مصر تعوم على سيولة من الأموال، وأن الغلاء يرجع لأسباب عالمية لا علاقة للحكومة بها.
لكن الواقع يقول إن قفزات الأسعار باتت تفرم الجميع، وأن الطبقة الوسطى اختفت، وبقيت طبقة الـ 5% التي تعيش مستقلة في جمهورية الساحل الشمالي خلال أشهر الصيف، أما في الشتاء فيعيشون داخل المنتجعات والكمبوندات والأحياء الراقية، وفي نهاية الأسبوع داخل شرم الشيخ والعين السخنة والغردقة.