مصر: استنفار في البيوت قبيل رمضان للحصول على سلع تختفي من الأسواق
بين حالة طوارئ بأجهزة الحكومة واستنفار بين أرباب البيوت، تضيع بهجة المصريين بدخول شهر رمضان. وتظل مظاهر الفرحة بقدوم أيام الصوم قاصرة على أوراق وأضواء الزينة المعلقة بالشوارع ومداخل البيوت، والفوانيس المعبأة إلكترونيا بأغان تراثية في أيدي الأطفال.
تبدو نواصي الميادين العامة في العاصمة القاهرة والمدن الكبرى مزدحمة بالمعارض، التي أقامتها وزارات التموين والداخلية والتابعة للجيش، ومهيمنة على المشهد، بما تصدره من ضجيج مكبرات صوت مسجل آليا لأنواع السلع المعروضة، بنفس القوة التي تسيطر فيها على صدارة الصحف والقنوات التلفزيونية، وحوارات الوزراء وتصريحات المسؤولين بالدولة.
تسعى الحكومة إلى طمأنة جمهور قلق على توفير كافة السلع من أغذية ومشروبات ولحوم، مع حرص واضح على وجود التمور وياميش رمضان الذي أصبح اقتناؤه حلماً مستحيلاً للأغلبية الكاسحة من الناس.
شغف الحكومة بالإعلان عن أماكن معارض السلع الغذائية بأسعار رخيصة يدفع ماجدة عبد اللطيف (56 عاماً) لاستقلال "توك توك" من منطقة "كعابيش" بمحافظة الجيزة شديدة الزحام السكاني، للإسراع إلى ميدان الطوابق بمدينة الجيزة، للوقوف في السابعة صباحاً بطابور انتظار وصول عربات وزارات التموين والجيش والداخلية، لبيع اللحوم والزيوت والسكر بأسعار مخفضة للجمهور.
تتجمع النسوة في المكان المحدد، وسط حشود العمال والموظفين، فيدفعهم ملل الانتظار إلى الجلوس على الرصيف نحو ساعتين، إلى أن تصل إحدى العربات الحكومية، لينفرط العقد وتتوه الطوابير، بينما يتكالب الجميع على طلب الشراء.
ما إن شاهد الجمهور وجود كميات من السكر، المختفي من الأسواق، منذ نحو الشهر، حتى ازداد الزحام، بعد أن نزل بعض المارة من السيارات والبيوت بالشوارع الرئيسية لمزاحمة الواقفين في الطابور منذ ساعات الصباح الأولى.
يقرر الموزع بيع كيلو واحد من السكر لكل فرد، مشترطاً أن يشتروا بعض السلع الأخرى من مكرونة ومعجون الطماطم والشاي المعبأ، كي يمنحهم كيلو من السكر بسعر مخفض بقيمة 27 جنيهاً (0.54 دولار). يرتضي الناس شروط البائع، غير عابئين بسعر السلع الأخرى التي تبدو موازية لأسعار البيع بالمحلات، حيث أصبح السكر عملة نادرة.
تعلم ماجدة مدى احتياجها للسكر مع قدوم شهر رمضان، حيث يكثر استهلاكه في صناعة المشروبات التي تقدم عند الإفطار، والحلوى الموسمية الشعبية مثل "الكنافة"، التي تحتل مكانة رفيعة لدى الصائمين.
تكالب الجمع على السكر، فانتهت حصة الموزع خلال دقائق. تحمل عربة المعرض المتنقل، التي تحمل نحو طن من المواد الغذائية مليئة باللحوم المجمدة، تباع بـ300 جنيه (6 دولارات) مع منتجات من الزيوت، والأجبان، والعسل والبيض والمخللات، بتخفيض يصل إلى نحو 30% عن الأسعار المعلنة في القطاع الخاص.
تنتشر المعارض الثابتة على قارعة الميادين بالتوازي مع معارض العربات المتنقلة، بتوافق بين الغرف التجارية والوزارات المعنية بالدولة، في محاولة لضبط موجات الغلاء الفاحش بأسعار السلع.
فرضت الحكومة سقفاً لسعر بيع 7 سلع، وهي زيت الطعام والفول والأرز واللبن والسكر والمكرونة والجبن الأبيض، باعتبارها منتجات استراتيجية، مع ذلك، لم تستطع أن توفرها إلا عبر تلك المعارض محدودة العدد، وأماكن التوزيع، التي يتكالب عليها الناس، بغض النظر عن رداءة تلك السلع، والمشقة التي يكابدونها.
تبدو اللحوم أقل المنتجات إقبالاً من الجمهور الذي عزف عنها لارتفاع أسعارها بوتيرة متصاعدة خلال الأشهر الماضية، رغم تمتع تلك المعارض بالحصول على أماكن مميزة، أغلبها من دون مقابل، وعدم خضوعها للقيود الأمنية والرقابية نفسها التي تمارسها أجهزة الدولة على نظيراتها من القطاع الخاص.
تتباهى الحكومة بمنح تلك المميزات لشركائها في المبادرات الشعبية لمكافحة الغلاء، التي تشرف عليها 18 جهة رقابية، على رأسها وزارات التموين والداخلية والرقابة الإدارية التابعة لمؤسسة الرئاسة، وجهاز حماية المستهلك، مع ذلك، لم تستطع تلك الجهات أن تمنع وقائع فساد هائلة تحدث في توزيع السلع التي يحتاجها الجمهور يومياً.
فقد تمكنت الرقابة الإدارية مؤخراً من القبض على الرجل الثاني في وزارة التموين، وأحالته مع 36 مسؤولاً عن توزيع المخصصات التموينية المدعومة من الدولة، في وقائع بيع نحو 29 ألف طن من السكر المخصص للسيدة ماجدة عبد اللطيف ومن على شاكلتها من الباحثين عن كيلو سكر رخيص الثمن، لكنها مُنحت لكبار التجار المتحكمين في السوق السوداء.
اتهمت النيابة العامة نائب وزير التموين وعصابته بارتكاب جناية التربح من وظائفهم بمبالغ قدرته بنحو 800 مليون جنيه (16.2 مليون دولار). حرمت تلك الصفقة آلاف الأسر من حقهم في الحصول على السكر، الذي ما زال مختفياً من الأسواق، في حين يباع سراً عبر موزعين في المناطق الشعبية، في كل المحافظات، بسعر يتراوح ما 60 و70 جنيهاً.
يصيب الحزن قلب ماجدة لعدم قدرتها على زيادة حصتها من السكر، خاصة مع تراجع المخصصات التموينية لحاملي بطاقات الدعم التمويني على مدار العامين الماضيين. بينما يعد علي مصيلحي، وزير التموين، بزيادة حصة السكر لكل أسرة من 4 كيلوغرامات إلى 6 كيلوغرامات، وذلك في تصريح مواز أطلقه منذ أيام بأن أزمة السكر ستنتهي خلال 10 أيام.
تتذكر السيدة الخمسينية مثلا شعبياً "بعد العيد لا يفتل الكعك"، فهي تدرك أن أزمة السكر، في دولة تنتج مصانعها نحو 85% من احتياجات البلاد من سكر القصب والبنجر، لا يمكن أن تختفي من أسواق دولة تنتج نحو 2.8 مليون طن سنوياً بهذه الطريقة التي لم تشهدها خلال أحلك فترات الحروب التي خاضتها البلاد، على مدار تاريخها الحديث.
طلب رئيس الوزراء مصطفى مدبولي من محافظي الأقاليم تكثيف حملاتهم على الأسواق، عبر "غرف عمليات مركزية" تضم الأجهزة الأمنية والرقابية، لمتابعة التزام المحال التجارية بحدود أسعار السلع السبع الأساسية، بينما تشهد أسعار باقي مستلزمات رمضان انفلاتاً غير مسبوق.
ويندر وجود الياميش والمكسرات في الأسواق لحاجة الموردين إلى شرائها من الخارج بالعملة الصعبة، في وقت تعاني الدولة من شح الدولار، بينما ترتفع أسعارها إلى معدلات قياسية، بما لا يُمكن أغلبية المواطنين من التفكير في شرائها، رغم عرضها بأوزان تبدأ من 50 غراماً للعبوة، بعد أن كانت تباع بالكيلو.
جندت الحكومة الجمعيات الأهلية لتوفير نحو مليون "كرتونة رمضان" لإطعام نحو 5 ملايين شخص، من تبرعات القادرين. يصل الحد الأدنى لقيمة الكرتونة إلى نحو 185 جنيها في المعارض الحكومية. وألزمت وزارة الأوقاف أئمة المساجد بتوزيع "كوبونات" بقيمة زكاة الفطر، لتجميع حصيلتها وتوزيعها على المحتاجين.
دفعت الأزمة الاقتصادية الحكومة إلى التقشف في المصروفات العامة، بينما لم تشعر أن الأزمة تطاول الجميع، ولم تؤثر على قدرة المواطنين على إطعام المساكين في "موائد الرحمن" وتبرعهم "بكرتونة رمضان" فحسب، بل لا تمكنهم من تدبير احتياجاتهم الأساسية من طعام ومأكولات يعتبرها المصريون مصدر البهجة على موائد الإفطار للأسر والعائلات وبين الأصدقاء.
في الأثناء، يبدي برلمانيون غضبهم من عدم قدرة الحكومة على ضبط حالة الفوضى في أسعار السلع. وبينما يتهم الوزراء التجار بالتسبب في ارتفاع الأسعار، يلقي الموردون باللائمة على الحكومة التي لا توفر لهم الدولار لشراء احتياجات الناس من السلع الأساسية، ومستلزمات الإنتاج، التي تأتي 90% من مكوناتها الغذائية من الخارج.
تتوالى الرسائل من مكتب وزير التموين مبشرة بتخفيض أسعار عدد من السلع الغذائية، حصلت" العربي الجديد" على نسخة منها، مبررة ذلك بتراجع قيمة الدولار في الأسواق، حيث هبط من نحو 73 جنيهاً في السوق الموازية، خلال الأسابيع الماضية، إلى ما يقرب من 50 جنيها الأسبوع الماضي، مقترباً كثيراً من سعره الرسمي بعد قرار البنك المركزي خفض قيمة الجنيه مجدداً الأربعاء الماضي.
بمراجعة قائمة الأسعار، تبين وضع سعر استرشادي لكيلو السكر المعبأ بنحو 35 جنيها، وبحد أقصى 40 جنيها، لكنه يزيد بنحو 8 جنيهات عن السعر السائد منذ شهرين. ويباع كيلو الفول بما بين 50-88 جنيهاً، والعدس بما بين 80-150 جنيهاً، وكيلو زيت الطعام بما بين 92-100 جنيه، والعبوة وزن 800 غرام بسعر 75-80 جنيهاً، وعبوة اللبن وزن كيلوغرام بما بين 40 و42 جنيهاً، والسائب بـ42 جنيهاً، والأرز بـ27-38 جنيهاً.
رصدت "العربي الجديد" وجود السلع نفس في الأسواق بأسعار أقل من المعلنة من الحكومة، لاعتمادها على حدود أسعار تقل في الأرياف والمناطق الشعبية في المدن عن المحددة من مكاتب المسؤولين. يباع اللبن السائب بنحو 34 جنيهاً للكيلو، والأزر يبدأ من 30 جنيهاً، والعدس 80 جنيهاً والفول 55 جنيهاً.
وتلقت" العربي الجديد" قوائم أسعار من مصانع خاصة وشعبة المواد الغذائية بالغرفة التجارية تظهر تراجعاً في أسعار بعض السلع الغذائية مدفوعة بتراجع قيمة الدولار عند أقل من 50 جنيهاً، ورغبة التجار في التخلص مما لديهم من بضائع، أملا في الحصول على تمويل صفقات الشراء الجديدة بالدولار الرخيص من الحكومة لتمويل صفقاتهم التجارية في المرحلة المقبلة.
بينما تظل ماجدة عبد اللطيف وأخواتها عالقة بين وعود حكومة باقتراب حل أزمة الأسعار وتوافر السلع، مع إتمامها عدة صفقات لبيع أراض وممتلكات عامة، ستوفر نحو 40 مليار دولار خلال العام الجاري، بما يمكنها من تدبير شراء احتياجات الجمهور والمصانع.