وقع المحظور بعد ابتلاع بوتين الطعم الأميركي ووقوعه بفخ أوكرانيا، لتخسر روسيا الاتحادية الثقة والاستثمارات ويهوي الروبل ويتباطأ الاقتصاد، سواء توقفت الحرب غداً أو استمرت حتى يحقق "القيصر الواهم" أحلامه التوسعية، لأن الثقة التي تبنى عبر سنين وتراكم هدمتها الحرب والعقوبات بليلة وضحاها، ورأس المال ليس جباناً كما يحلو للبعض أن يصفه، لكنه يتوجس من الخسائر بمناخات مضطربة ومرشحة للتقلبات والعزلة.
لتبدأ الأسئلة، بواقع زيادة تضييق الخناق على روسيا وتوقعات استمرار الحرب وفداحة نتائجها، عن البدائل لموارد الطاقة، خاصة للقارة الأوروبية، وعن وجهات نقل وسفر تعوّض الأجواء المغلقة وتغني عن تجارة البحر الأسود التي تزوّد الدول المطلة عليه، جل دول العالم، بالحبوب والطاقة والزيوت.
هنا، تأتي تركيا ربما، بمقدمة الدول البديلة، وذلك لاعتبارات عدة، إن بدأت من مسك تركيا عصا الموقف من الحرب، من المنتصف، فآخت بعلاقاتها حتى اليوم، بين موسكو حليفة ما بعد عام 2015 من جهة، وكييف ومن ورائها الشركاء بحلف الناتو من جهة أخرى، لا تنتهي الاعتبارات عند الجغرافيا وموقع تركيا الواصل بين الدول المنتجة للطاقة والغذاء وبين المستوردين، بأوروبا أولاً، والذين بدأ أنينهم يتعالى، بعد ارتفاع أسعار السلع والمنتجات وارتفاع نسب التضخم، وما يمكن أن يتمخّض من عقابيل، إن استمرت روسيا باستخدام العقوبات المضادة، وحرمت دول القارة العجوز من نعماء الغاز والنفط والمواد الأولية.
تركيا التي تؤثر حتى اليوم أخْذَ موقف "العاقل المحايد"، تعد للاستفادة من "الأمر الواقع" وإن لا تسعى بالعلن إليه، فخطوط طيرانها خيار شبه إجباري، على الأقل، كترانزيت، بعد إغلاق الأجواء الأوروبية بوجه الطيران الروسي، ومناخها الاستثماري هو الأكثر جذباً بالمحيط القريب من دوائر الحرب والنار، ولعل الأهم أن جغرافيتها تضعها بموقع البديل الأهم والأقل كلفة لنقل طاقة المتوسط (نفط وغاز) إلى أوروبا، بواقع تتالي قرارات وقف استيراد الطاقة الروسية وانسحاب شركات الطاقة والاستثمارات من روسيا البوتينية.
واقع الحال والأنباء المتواترة يدللان على انتقال الشركات العالمية من روسيا وحتى أوكرانيا إلى تركيا، بعدما صنفتها الحرب ملاذاً آمناً بصرف النظر عن تقييم وكالات التصنيف والمخاطر التي كانت تسوّقها واشنطن وحتى بعض العواصم الأوروبية عن الاقتصاد التركي قبل اندلاع حرب روسيا أوكرانيا.
وربما بالزيارات المتلاحقة لتركيا من مديري الشركات العالمية أو حتى مسؤولي وزعماء الدول، إشارة إلى الخير القادم لتركيا جراء المصائب التي تتساقط على رأس روسيا، ولعل بزيارات المستثمرين الأميركيين لتركيا، وما قيل عن تنسيق سفير واشنطن بأنقرة جيف فليك لتكون تركيا موطنا لبعض الشركات، إن لم نقل لخمسة آلاف شركة أميركية بروسيا، علامة أخرى لتكتمل الدلائل بزيارة رئيس غرفة التجارة الأميركية مايرون بريليانت إلى تركيا، برفقة وفد من المستثمرين، وما تلا الزيارة من تعهّد شركة "آم تشام تركيا" -التي تمثل 110 شركات مقرها الولايات المتحدة، بالتسهيلات لرجال الأعمال والمستثمرين الأميركيين.
تركيا، التي قلنا إنها ستغتنم الرياح التي هبت لرأب الصدوع الكثيرة مع الولايات المتحدة، أرسلت بالمقابل وفداً تركياً يضم مسؤولين كبارا وبرلمانيين ورجال أعمال إلى واشنطن، في ما تسميه "فعاليات الدبلوماسية التجارية" التي يجري تنظيمها في واشنطن ونيويورك بتنسيق من مكتب الاتصال بالرئاسة التركية وجمعية المصدرين الأتراك.
ليتعاظم الأمل التركي باستقطاب ولو بعض الشركات المغادرة روسيا، كفورد وبوينغ وجنرال موتورز وإكسون موبيل وفيديكس ونايكي وأديداس، وتكون أنقرة ربما موطناً بديلاً عن المدن الروسية لنتفليكس وفيزا ماستر كارد وأميركان إكسبريس وآبل.
بيد أن الطاقة، وما ترتب من عقابيل جراء الحرب، سعرية كانت أو بالمعروض، تأتي بمقدمة الفرص التي يمكن أن تعيد تركيا كمركز عبور وناقل على أقل تقدير. فقربها من نفط وغاز دول المتوسط والقوقاز ووسط آسيا وجغرافيتها المطلة على المستهلكين الشرهين بأروبا وضعتاها تحت الضوء اليوم، لتكون الجسر البديل لنقل الطاقة بين المصدرين والمستوردين.
ولعل بخريطة أنابيب نقل الغاز والنفط، التي تمر عبر تركيا، عاملاً إضافيا يزيد من وضع تركيا كبديل شبه وحيد لسد الفجوة الطاقوية التي تتسع كلما استمرت الحرب وزادت العقوبات والعناد الروسي بمواجهتها.
ففي تركيا خطوط نقل جاهزة، كانت بطبيعة الحال وقبل الحرب تنقل النفط والغاز من روسيا وأذربيجان والعراق إلى تركيا، وفي تركيا أيضاً خطوط نقل الغاز إلى الدول الأوروبية.
فهنا جزء كبير من خط "تاناب" بطول 1.850 كلم، يمر عبره 16 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز الأذربيجاني المستخرج من بحر قزوين إلى أوروبا.
وهنا في تركيا، خط أنابيب السيل التركي "تورك ستريم" لنقل نحو 15.75 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز الطبيعي من روسيا إلى أوروبا عبر تركيا. كما في تركيا خط باكو-تبليسي-أرضروم لنقل نحو 8.1 مليارات متر مكعب من الغاز الأذربيجاني إلى تركيا سنوياً.
وفي تركيا، عدا الطاقة والطيران، سياحة بديلة أو تزيد عن أوكرانيا وروسيا، فتراجع سعر صرف الليرة وما تزخر به تركيا من جمال طبيعة ورخص العلاج، يضعها بموقع المقصد البديل للسياح الأوروبيين وغير الأوروبيين.
خلاصة القول: لا تسعى تركيا لاغتنام خراب أوكرانيا بقدر ما تدفعها الظروف والجغرافيا لتستفيد، فإن خسرت نحو 6 ملايين سائح من روسيا وأوكرانيا وتراجع حجم التبادل الذي ينوف عن 25 ملياراً مع الدولتين، فثمة تعويضات مباشرة بدأت تتدفق على أنقرة من خلال الطيران والنقل والسياحة، وبدائل بالتدرّج ستجنيها تركيا، بعدما زادت الحرب من جذب بيئتها الاستثمارية وحولتها التحولات إلى ملاذ آمن للهاربين من جحيم الحرب ومخاطر المناخ الروسي الطارد.