خلال السنوات الماضية كانت بعض الأنظمة والحكومات العربية تعيّر شعوبها بما يحدث في بعض دول المنطقة التي تشهد حروباً أهلية وقلاقل أمنية عنيفة مثل سورية والعراق واليمن وليبيا.
وكان العراق يحظى بالنصيب الأكبر من المعايرة الرسمية والشعبية، ذلك لأنّه شهد منذ الاحتلال الأميركي في العام 2003 فراغاً أمنياً وسياسياً كبيرا ومخاطر جيوسياسية ودماراً مالياً واقتصادياً شديدا لم تشهده دولة في المنطقة. قلاقل زادت حدتها عقب الانسحاب الأميركي في العام 2011 وكادت تهدد وجود الدولة نفسها.
كما شهد العراق ولسنوات طوال اقتتالاً داخلياً وسيطرة جماعات وتنظيمات إرهابية مثل "داعش" على مساحات ضخمة من أراضي الدولة، إضافة إلى تفشي الفساد المالي ونهب المال العام، وتهريب مليارات الدولارات للخارج من قبل كبار المسؤولين ورموز محسوبة على النظام الحاكم، وتبعية النظام الحاكم في بغداد لقوى إقليمية في مقدمتها إيران، وتوترات مع دول الخليج وتركيا والولايات المتحدة وغيرها.
عندما كان المواطن يئن من الغلاء وقفزات الأسعار كان الرد جاهزاً: "مش أحسن ما نكون زي العراق".
وعندما كانت بعض الحكومات العربية تحاول الإفلات من المحاسبة الشعبية عن أخطار كارثية ارتكبتها بحق الدولة والشعب كانت تقول للمواطن: "لازم نستحمل، ولا عايزنّا نبقى زي سورية والعراق"، وكانت تطلق إعلامها على المواطن مهدداً ومتوعداً ومطالباً له بالصمت والخرس على ما يحدث من جرائم تحت شعار "مش أحسن ما نكون زي العراق وسورية" وغيرهما من دول الحروب والقلاقل في المنطقة".
تكرر الموقف والمعايرة حتى عقب المجازر التي ارتكبتها السلطات بحق الشباب العزل والمتظاهرين السلميين والمعارضين السياسيين.
وعندما كان المواطن يئن من الغلاء وقفزات الأسعار كان الرد جاهزاً: "مش أحسن ما نكون زي العراق".
يتكرر المشهد عندما يحدث انقطاع في الكهرباء والإنترنت وتردي الخدمات الضرورية من مياه، أو حتى عندما ترفع الحكومات أسعار السلع الرئيسية والخدمات ومنها السلع التموينية والبنزين والسولار والمواصلات بمستويات قياسية، هنا يتم تذكيره بما يحدث في العراق وحالة التردي الأمني بها والفوضى السياسية وسيطرة الإرهاب عليها.
يتكرر المشهد أيضاً عند اتخاذ الحكومات قرارات تقشفية خطيرة ينتج عنها تعويم العملات المحلية وتهاوي سعرها وانهيار القدرة الشرائية للمواطن وغرق الدولة في وحل الديون الخارجية بلا ضوابط.
ومع كلّ أزمة حادة وقرار سياسي أو اقتصادي أو أمني كارثي يتم تخيير المواطن بين القبول بالواقع المر والذليل، أو أن يتحول إلى لاجئ هارب وأسرته خارج وطنه أو يعيش في خيام داخل بلده كما يحدث داخل العراق التي تشهد فوضى عارمة.
الآن تغير المشهد في العراق وباتت الدولة العربية العريقة تستضيف واحدا من أهم الأحداث الرياضية في المنطقة متمثلا بالنسخة 25 من بطولة كأس الخليج العربي لكرة القدم "خليجي 25" ما بين 6 و19 يناير الجاري، بمشاركة منتخبات 8 دول عربية، وهي: العراق، الكويت، قطر، سلطنة عمان، السعودية، اليمن، البحرين، الإمارات.
والمتابع للحدث الرياضي الذي يقام كلّ سنتين بمشاركة المنتخبات الثمانية المنضوية في اتحاد كأس الخليج العربي لكرة القدم يلحظ الافتتاح المبهر للبطولة التي تستضيفها مدينة البصرة، وحضور جماهيري واسع تجاوز السبعين ألف مشاهد في إحدى المباريات.
وللتذكير هنا، فإنّ العراق يستضيف بطولة كأس الخليج العربي للمرة الثانية في تاريخه بعد الأولى التي أقيمت في العاصمة بغداد عام 1979.
بات لدى العراق احتياطي كبير وقوي من النقد الأجنبي، قفز إلى مستويات غير مسبوقة ليبلغ نحو 100 مليار دولار
العراق يتغير، فقد حقق استقراراً أمنياً نسبياً، وتراجعاً في المخاطر الجيوسياسية في الفترة الأخيرة، كما طرد العديد من التنظيمات الإرهابية من البلاد وقضى على معظمها، وخلال السنوات الأخيرة قطع العراق شوطاً مهماً في ملف الاستقرار السياسي إذ تجرى من وقت لآخر انتخابات رئاسية ونيابية تشهد لها مؤسسات حقوقية دولية ومحلية بالنزاهة.
وبات لدى العراق برلمان يحاسب الحكومة ويعزل الوزراء وكبار المسؤولين ويفتح ملفات حساسة منها الفساد المالي لرؤساء حكومات ومسؤولين نافذين. كما بات لدى العراق رئيس دولة بصلاحيات محدودة يختاره البرلمان المنتخب.
على المستوى الاقتصادي، نلحظ أن الاقتصاد يشهد تعافياً وانتعاشاً لمعظم الأنشطة، وبعد أن كانت الحكومة العراقية لا تجد المال الكافي لسداد أجور ورواتب الموظفين، بات لدى الدولة احتياطي كبير وقوي من النقد الأجنبي بالبنك المركزي، قفز إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ البلاد ليبلغ نحو 100 مليار دولار. ويمثل الرقم مستوى قياسياً لاحتياطيات العراق لم يبلغه منذ عام 1960.
وللعام الثالث على التوالي، يعلن العراق، تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح بإنتاج متوقع يبلغ 4 ملايين طن هذا العام. كما أعلنت وزارة الزراعة العراقية قبل أسابيع عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في 15 محصولا، وأنها تقترب من تحقيق الاكتفاء الذاتي للمنتجات الحيوانية وفي مقدمتها الدواجن، ليبدد ذلك الإعلان ولو جزئيا عن اعتماد البلاد على الخارج في السلع الغذائية.
طبعاً، الصورة ليست وردية داخل العراق ولم تكتمل بعد، فالفساد لا يزال يستشري في البلاد، والطوائف والمليشيات لا تزال لها كلمة قوية في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وإيران لا تزال تسيطر على الأنشطة الاقتصادية في البلاد، وعدد الفقراء يتجاوز 25% من إجمالي عدد السكان في حين ترفع تقديرات غير رسمية النسبة إلى 40%. وهناك قفزات في أسعار السلع الأساسية وزيادة في البطالة.
قبل أن تردد مقولة "مش أحسن ما نكون زي العراق؟" عليك الاطلاع على ما يحدث في الدولة العربية العريقة حالياً
لكنّ العراق 2023 الذي يستضيف كأس الخليج ليس هو العراق المحتل في العام 2003 وليس العراق الذي تسيطر عليه جماعات إرهابية كادت أن تستولي على العاصمة بغداد منذ سنوات، والعراق لم يعد هو الشعب المكبوت سياسياً وأمنياً، بل يخرج إلى الشوارع من وقت لآخر متظاهراً ضد غلاء الأسعار وتفشي الفساد والاحتكارات وتراجع الدينار مقابل الدولار، بل وضد نتائج الانتخابات والطائفية.
عزيزي المواطن، قبل أن تردد مقولة "مش أحسن ما نكون زي العراق؟" عليك الاطلاع على ما يحدث في الدولة العربية العريقة حالياً حتى لا تتحول إلى ببغاء تردد ما يقذف إليها دون مرور الكلام على العقل والتدبر به.