تمنح الصعوبات التي تواجهها روسيا بفعل استمرار حربها في أوكرانيا والتباطؤ الاقتصادي في الصين بجانب تباين الرؤى بين دول تكتل بريكس حول ملفات عدة، الولايات المتحدة نوعاً من الارتياح إزاء استمرار هيمنة عملتها ونظامها المالي والمصرفي على العالم، إلا أنه لا يتوجب عليها أن تطمئن كثيراً، فتقويض سطوة العملة الخضراء يحظى بجاذبية قوية في بقاع أخرى من العالم لا ينبغي الاستهانة بها، خاصة في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
من الواضح أن هناك شهية متزايدة بين الدول لإيجاد بديل للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة، فقد أعربت حوالي 23 دولة عن اهتمامها بالانضمام إلى تكتل "بريكس"، في حين يحضر نحو 60 من قادة العالم وكبار الشخصيات قمة التكتل المنعقدة حالياً في جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا، والتي قد تكون بمثابة اختبار لكبار خصوم الولايات المتحدة الذين يسعون إلى توسيع التكتل وإرساء نظم أكبر للتعاون ودعم العملات الوطنية وتوفير التمويل اللازم للدول الأعضاء.
وتستحوذ بلدان "بريكس" الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا على ربع الاقتصاد العالمي، وتمثل 40% من سكان العالم. وتحرص كل من بكين وموسكو على بث حياة جديدة في التكتل ليظهر للعالم أن هناك بدائل للتحالفات والمؤسسات التي تقودها الولايات المتحدة والتي هيمنت على الشؤون العالمية لعقود من الزمن.
وتبدو هذه القمة التي تختتم أعمالها، اليوم الخميس، بعد ثلاثة أيام من الانعقاد شبيهة بأيام مؤتمر باندونغ في إندونيسيا، حيث اجتمعت 29 حكومة من آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط خلال الحرب الباردة ووضعت الأساس لحركة عدم الانحياز. وكما كان الحال آنذاك، تعمل "بريكس" كجهد بديل للتصدي للهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي والمؤسسات المالية الدولية.
وفي كلمته خلال اليوم الثاني للقمة، أمس الأربعاء، قال رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، إن على "بريكس" أن تصبح "قائداً" في الاقتصاد العالمي، مشيراً إلى أن دولها كانت على مدار العقد الماضي "قاطرة للنمو العالمي والتجارة الدولية". وأضاف أن المجموعة عبارة عن تشكيل من الدول النامية والاقتصادات الناشئة، تسعى إلى العمل سوياً من أجل الاستفادة من التاريخ العريق والغني.
نظام مالي عالمي جديد
كما أشار الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في كلمته إلى ضرورة وجود نظام مالي عالمي جديد لا يعمل على تطوير عدم المساواة، بل تطوير التمثيل المتساوي للدول. وطالب بإجراء إصلاحات لـ"منظمة التجارة العالمية"، التي يجب أن تخلق في الاقتصادات أماكن عمل موفرة للجميع، منبهاً إلى أن "بنك التنمية الجديد" الذي تتبناه بريكس يمكنه أن يقدم بديلاً للتمويل المطلوب، والذي يمكن أن يتطابق مع مصالح دول جنوب الكرة الأرضية. وأُنشئَ "بنك التنمية الجديد" عام 2015 ليكون بديلاً من مؤسسات دولية مثل "صندوق النقد" أو "البنك الدولي".
وشدد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، على أن أسرة "بريكس" تسعى للتوسع، معرباً عن دعمه لهذا التوسيع. وترغب حالياً نحو 23 دولة بينها إندونيسيا والسعودية والإمارات ومصر والجزائر، في الانضمام إلى المجموعة التي تشكلت عام 2009، وانضمت إليها لاحقاً جنوب أفريقيا عام 2010.
أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فأشار إلى أن من أولويات المجموعة تأسيس خطوط نقل ومواصلات مستدامة، مثل ممر الشمال – الجنوب، داعيا شركات النقل لتطوير سلاسل التوريد وممرات النقل ليس فقط عبر الشمال، وانما من خلال مشاريع أخرى في دول الجنوب.
وحذر الرئيس الصيني شي جين بينغ في كلمته من أن "عقلية الحرب الباردة تشكل مصدر قلق في عالمنا"، وأنه من الضروري "الالتزام بالقوانين الدولية، وليس الخضوع لإملاءات الدول القوية".
وفي مقابل حماسة العديد من الدول بأن يكون لتكتل بريكس دور فاعل على الساحة الدولية سياسياً واقتصادياً، قال جيك سوليفان مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، الثلاثاء الماضي، إن الولايات المتحدة تستبعد تحول المجموعة إلى منافس جيوسياسي لها أو لأي بلد آخر. وأضاف في إفادة صحافية، أن "هذه مجموعة متنوعة من الدول.. لديها اختلاف في وجهات النظر بشأن القضايا الحاسمة".
لكن أوليفر ستونكل أستاذ العلاقات الدولية في مؤسسة "جيتوليو فارغاس" في ساو باولو، قال في تحليل في مجلة فورين بوليسي الأميركية، إنه رغم الخلافات والتي تصل إلى حد التوتر بين بعض دول بريكس، فإن أعضاء المجموعة لديهم قواسم مشتركة أكثر مما يقدره المحللون الغربيون في كثير من الأحيان. ولا تزال الفوائد الاستراتيجية التي تنتجها المنظمة للمشاركين فيها تتجاوز تكاليفها بكثير.
وأشار ستونكل إلى أنه على الرغم من الخلافات، لم يفوت أي زعيم من زعماء مجموعة بريكس حضور القمم السنوية للمجموعة، وبدلاً من الانهيار الذي توقعه محللون غربيون، تعززت العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، وأصبحت عضوية بريكس عنصراً أساسيا في هوية السياسة الخارجية لكل عضو.
وهناك أربعة جوانب تجمع دول بريكس، أولها أن ظهور التعددية القطبية أمر لا مفر منه ومرغوب فيه بشكل عام وينظرون إلى التكتل على أنه وسيلة للعب دور أكثر نشاطًا في تشكيل النظام العالمي ما بعد الغرب، حيث تشترك الدول الأعضاء في شكوك عميقة حول الأحادية القطبية التي تقودها الولايات المتحدة، وفق ستونكل.
كما أن بريكس توفر إمكانية الوصول المتميز إلى الصين، وهي الدولة التي أصبحت ذات أهمية كبيرة لجميع الأعضاء الآخرين. وقد استفادت البرازيل وجنوب أفريقيا على وجه الخصوص، اللتان كانت لهما علاقات محدودة مع بكين قبل تأسيس المجموعة، من بريكس في تكيفهما مع عالم أكثر تركيزاً على الصين.
الجانب الثالث برأي أستاذ العلاقات الدولية في مؤسسة "جيتوليو فارغاس" هو أن المجموعة تشكل طوق حياة دبلوماسياً قوياً للدول الأعضاء التي تواجه مؤقتاً صعوبات على المسرح العالمي، حث قامت دول بريكس بحماية الرئيس الروسي من العزلة الدبلوماسية بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014. وأخيراً منح التكتل دولا مثل روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا وضعاً اقتصادياً أقوى بينما ظلت لسنوات راكدة.
ورغم الأهداف المشتركة التي تجمع دول بريكس في تقويض الهيمنة الأميركية والحد من سطوة الدولار، إلا أن خبراء يستبعدون أن تنجح المجموعة في الاتفاق على إنشاء عملة مشتركة أو نظام مالي جديد. وقال جيه بيتر فام الدبلوماسي الأميركي السابق والباحث في الشؤون الاستراتيجية لمجلة فورين بوليسي إن "فكرة أن خمس دول ذات مصالح ومسارات متباينة للغاية يمكنها بطريقة أو بأخرى تشكيل اتحاد متماسك بما فيه الكفاية لتوسيع عضويته والاتفاق على عملة مشتركة تبدو بعيدة المنال بالنسبة لي".
الحد من الاعتماد على الدولار مستمر
لكن الرئيس الروسي قال إن حصة الدولار في تعاملات دول المجموعة تراجعت إلى 28%، وإن الحد من الاعتماد على الدولار مستمر "ولا تراجع عنه"، لافتا إلى أن بنك التنمية التابع للمجموعة سيمثل "بديلاً لمؤسسات التمويل الغربية".
واتهم بوتين الذي لم يتمكن من حضور القمة بشكل شخصي نظراً لصدور مذكرة اعتقال بحقه من المحكمة الجنائية الدولية التي تضم جنوب أفريقيا في عضويتها، "دولاً غير مسؤولة" بالضغط على الأسواق ما تسبب في التضخم الذي يشهده عدد من البلدان والأثر السلبي على الاقتصاد العالمي.
وأشار إلى أن "هناك تقلبات في الأسواق المالية وأسواق الطاقة وغيرها من الأسواق"، داعياً إلى "ضرورة التعاون بين دول "بريكس" على مبدأ المساواة، ودعم الشركاء، واحترام مصالح الطرف الآخر"، مؤكداً أن ذلك هو "جوهر نهجنا المستقبلي".
وأكد بوتين أن "بريكس" تعمل على تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء لتسريع النمو الاقتصادي، مشيرا إلى أن حجم التبادل التجاري بين روسيا ودول "بريكس" يصل حالياً إلى 280 مليار دولار.
وزادت المبادلات التجارية بين أعضاء "بريكس" بنسبة 56% إلى 422 مليار دولار على مدى السنوات الخمس الماضية، في حين يعادل مجموع الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للأعضاء، البالغ 25.9 تريليون دولار، 25.7% من الناتج العالمي، حسب بيانات المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو.
وحتى في حال عدم إنشاء عملة مشتركة، فإن الاهتمام المتزايد من الدول بالانضمام إلى بريكس يقلق أميركا. وتدعم روسيا وجنوب أفريقيا توسيع نطاق المجموعة، وكذلك البرازيل التي أعرب رئيسها عن تأييده انضمام "دول عدة". ولعل شعار القمة الحالي "بريكس وأفريقيا" يشير إلى هذا الاهتمام، حيث باتت القارة السمراء مسرحاً للمعارك الدبلوماسية مجدداً مع تنافس كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين على النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي.
كذلك فإن انضمام السعودية المحتمل إلى التكتل قد يمنحه ثقلاً كبيراً، وفق ما نقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية عن جيم أونيل، الاقتصادي البارز والمخضرم في بنك الاستثمار العالمي غولدمان ساكس، الذي وصف الانضمام المتوقع بأنه سيكون بمثابة "صفقة كبيرة جداً" في ظل دورها كأكبر منتج للنفط في العالم.
ضعف حصة مجموعة السبع الصناعية
وكمجموعة أوسع، سيشكل التكتل نصف الإنتاج العالمي بحلول 2040، بحسب تقديرات "بلومبرغ إيكونوميكس"، ما يُعد ضعف حصة مجموعة السبع الصناعية الكبرى، ويقلب الموقف بالمقارنة مع مطلع القرن الحالي. وستضم مجموعة "بريكس" الموسعة نصف سكان العالم تقريباً، مرتفعة من 42% بالوقت الحالي، بحسب أنيل سوكلال، سفير جنوب أفريقيا لدى التكتل.
قالت كارين فاسكويز، الأستاذة المشاركة المتخصصة بالممارسات الدبلوماسية بجامعة "أو. بي. جيندال غلوبال" الهندية والمقيمة في شنغهاي لبلومبيرغ: "حققت هذه البلدان نهضة اقتصادية، وطرحت مخاوفها، وهي حالياً قادرة على توفير بدائل، إذا لم تسمع شكواها".
والتذمر بشأن العملة الأميركية ليس بالأمر الجديد. فقد انتقد وزير المالية الفرنسي "الامتياز الباهظ" الذي يمنحه الدولار للولايات المتحدة قبل ما يقرب من ستة عقود من الزمن. كما سلطت العقوبات المفروضة على روسيا الضوء على مخاطر الاحتفاظ بالاحتياطيات الأجنبية في أصول مقومة بالدولار. كما أن الكثير من الدول عانت من انهيار عملاتها في السنوات الأخيرة امام الدولار ما تسبب في صعوبات توفق خسائر الحروب. ووفق صندوق النقد الدولي فإن ارتفاع الدولار بنسبة 10% يخفض إنتاج الاقتصادات الناشئة بنسبة 1.9%.
وبينما يرى محللون غربيون أن الإطاحة بالدولار أمر غير مرجح، مستندين إلى هيمنته الواسعة على التجارة العالمية، وعمق أسواق رأس المال الأميركية، إلا أن صحيفة فايننشال تايمز البريطانية تقول إنه لا ينبغي للولايات المتحدة أن تكون مطمئنة لهذه الهيمنة، حيث تراجعت حصة الدولار في الاحتياطي العالمي بنسبة 13% منذ عام 2000، لتصل إلى 58% حالياً.