استمع إلى الملخص
- **التخاذل العربي والدولي**: تعاني غزة من عجز عربي ودولي في تقديم العون اللازم، حيث لم تسفر الجهود الدولية إلا عن إدخال 24 شاحنة يوميًا مقارنة بـ500 شاحنة قبل الحرب. الكيان الصهيوني يستهدف شاحنات المعونات والأفراد.
- **دور المجتمع في دعم غزة**: يمكن للمجتمعات العربية والإسلامية دعم غزة من خلال مبادرات بسيطة مثل "حفنة الأرز"، حيث يمكن للأسر ادخار تكلفة وجبة واحدة يوميًا وتقديمها للجمعيات المعنية. الأثرياء العرب والمسلمين عليهم واجب أكبر في تقديم الدعم المالي وممارسة الضغوط على الحكومات.
لا تخفى على أحد حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهل غزة على يد الكيان الصهيوني، منذ ما يزيد على تسعة أشهر، وبدعم من أميركا وبريطانيا ودول غربية. ومعها تتفشى ظواهر الجوع والتهجير والقتل الجماعي وتدمير البنية التحتية، وبالتالي فإن كل ما في غزة يحرك المشاعر الإنسانية، لقسوة ما يجري هناك، فعدد الشهداء والمصابين كبير، وكذلك عدد الأطفال الأيتام، وحتى من هم بعيدون عن الإصابات أو الشهادة، أو اليُتم، فإنهم فقدوا كل ما يملكون من مسكن ومدخرات، ولم يعد هناك مجال للرزق وكسب العيش، أو توفير المدخرات لشراء متطلبات الحياة في ظل اختفاء سلع أساسية وقفزات الأسعار.
هذه المشاهد المأساوية تحصل وسط حالة من العجز العربي على مستوى الشعوب، وسُخف وعجز الحكومات، التي خذلت أهل غزة، بالتخلي عنهم، وعدم مد يد العون لهم، في كافة المجالات. ولعل أبسط حقوق الإنسان أن يتوفر لأهالي القطاع المحتل القوت والطعام والشراب الضروري، لبقائهم على قيد الحياة.
تأتي معاناة أهالي غزة مع الجوع والعطش والتهجير، وسط حالة من التعامي والتخاذل لبعض الحكومات العربية، التي تنظم مسابقات ترفيهية وحفلات غنائية واستعراضية ورياضية بكلفة تتجاوز ملايين الدولارات، لا تعود بأي نفع على الأمة، بل تمثل حالة من الفراغ الإنساني والترف المذموم.
مأساة الجوع في القطاع
وفق ما جاء في أحدث تقرير لبرنامج الغذاء العالمي، التابع للأمم المتحدة، في يونيو 2024 "يرسم تقييم التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي الخاص بغزة صورة قاتمة للجوع المستمر هناك، حيث وجد التقييم أن 96% من السكان يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد، ومن ضمن هؤلاء ما يقرب من نصف مليون شخص يعيشون في ظروف كارثية".
فضلًا عن تقارير أخرى تفيد بتسمم مياه الشرب، وعدم وجود الصرف الصحي الآمن، بسبب تدمير الكيان الصهيوني للبنية الأساسية هناك، وهو ما يعرض حياة من ينجون من القصف لمخاطر تنال من صحتهم وحياتهم بقدر كبير.
وحالة الجوع التي يعانيها أهل غزة، ناتجة من عوامل كثيرة، على رأسها إصرار الكيان الصهيوني، على تدمير الأراضي الزراعية، وآبار الماء، وكذلك تعنته في إدخال المساعدات عبر المعابر، وبخاصة معبر رفح، الذي رفعت مصر يدها عنه، بشكل كامل في ظل الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة وإعلان جيش الاحتلال يوم 29 مايو/ أيار سيطرته العسكرية الكاملة على محور فيلادلفيا، على الرغم من حق مصر في أن تدير وتدافع عن معبر رفح، الواقع بينها وبين الأراضي الفلسطينية، وليس للكيان الصهيوني الحق في إدارته أو السيطرة عليه. وكذلك غياب الضغط اللازم من المؤسسات الدولية وحكومات الدول الكبرى على الكيان الصهيوني، للكف عن جرائمه في غزة.
فلم تسفر كافة الجهود الدولية والإقليمية لإدخال المساعدات الإنسانية في غزة على مدار الستة أشهر الأولى، إلا عن إدخال 24 شاحنة في المتوسط يوميًا، بينما كان المعدل الطبيعي قبل الحرب دخول 500 شاحنة تجارية. كما أن وسائل الإعلام نقلت غير مرة، قيام الكيان الصهيوني، باستهداف شاحنات المعونات الغذائية، بل واستهداف الأفراد، الذين يذهبون لمقار توزيع المساعدات، ويعودون جثثا هامدة. ومما يزيد من أزمة الغذاء، أن ما يتم إدخاله من قبل التجار، أثمانه مرتفعة، لا تقدر عليها العائلات في غزة بسبب ضيق ذات اليد، وغياب كافة سبل الرزق. ولا يلوح في الأفق حل سياسي، يضمن وقف إطلاق النار، وتدفق المساعدات لأهل غزة، لينقذهم من مخاطر المجاعات والموت المحقق لغياب الغذاء ومياه الشرب بالكميات الكافية، ونقلت لنا وسائل الإعلام، حالة الهزال التي يظهر بها الأفراد هناك، سواء كانوا أطفالًا أو شبابًا أو شيوخًا، بل وموت بعض الأطفال بسبب الجوع.
وتفرض هذه الحالة واقعًا جديدًا، يوجبه الدين والإنسانية، بألا نقف متفرجين، أو نكتفي بالتظاهر، أو نشر بعض التدوينات على وسائل التواصل الاجتماعي، أو التفاعل الإعلامي، وإن كان هذا مطلوبا، ولكن أهل غزة يتساقطون جوعًا، ولا بد من خطوة عملية، تقدم الدعم ولو في أبسط صوره.
"حفنة الأرز"
في مطلع التسعينات ساقتني الأقدار للعيش في بنغلادش للمشاركة في أعمال الإغاثة هناك، وكما هو معلوم فإن الدولة الواقعة في شرق آسيا واحدة من أفقر دول العالم، وكان في ذلك التوقيت وحسب بيانات تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة، يوجد هناك 35 مليون إنسان بلا مأوى، يعيشون في الشوارع. لم يكن لدى الدولة رفاهية أن ترعى المساجد في ظل حالة الفقر الحادة هذه، فسألت وقتها: ومن يرعى المساجد من حيث رواتب الأئمة، وخطباء الجمعة، فكانت الإجابة، أن المجتمع الأهلي هو من يقوم بهذا الواجب. فكل ربة منزل عندما تُعد طعام بيتها، الذي لا يزيد عن وجبتين في اليوم، من قوت بسيط، عبارة عن الأرز والعدس فقط، تملأ كفيها بالأرز النيئ، وتحتفظ به في إناء، وقبل نهاية الأسبوع تجمع ما تم تجنيبه من طعامهم القليل، ليذهب به رب الأسرة إلى إمام المسجد، فيجمعها الإمام من الأسر المحيطة بالمسجد، فيبيع بعضها ويحتفظ بالبعض الآخر لتكون قوته وقوت أسرته.
عكست هذه الحالة صورة من التكافل والحفاظ على استمرار دور المسجد في المجتمع، وذلك على الرغم من حالة الفقر المزرية، التي كان يعانيها المجتمع في بنغلاديش. وبلا شك أن أرواح أهل غزة، أولى من رعاية وبناء المساجد، وكافة أعمال الخير الأخرى، فحفظ النفس من المقاصد الرئيسة للشريعة الإسلامية.
وأحسب أن حالة التعاطف الشعبي في العالمين العربي والإسلامي، مع أهل غزة عالية جدًا، ويمكنها المساهمة بشكل كبير في دعم أهل عزة، وبخاصة في مجال الغذاء، والضروريات التي تحافظ على حياة الناس هناك.
كما أن الوضع الاقتصادي والمالي في الكثير من دول العالمين العربي والإسلامي، أحسن حالًا من بنغلادش، فماذا لو نقلنا الفكرة للبيوت، بادخار وجبة لفرد واحد كل يوم، على أن تجمع تكلفة الوجبات في نهاية الأسبوع ويتم التقدم بتلك القيمة لإحدى الجمعيات المعنية بجمع التبرعات لأهل غزة؟ من مزايا هذا الاقتراح، أنه لن يشكل عبئًا على البيوت، كما أن سيمثل رافدًا مستمرًا لدعم بند مهم في حياة الناس بغزة، وهو الطعام والشراب. كما أنه سيضمن استمرار حالة التضامن والاهتمام لدى المجتمعات العربية والإسلامية بالقضية الفلسطينية.
كما سيقطع حالة الرتابة والتعود، التي يكرسها، استمرار نقل الإعلام لعمليات الإبادة من قبل الكيان الصهيوني في غزة. واقتطاع ثمن وجبة لفرد كل يوم، ستكون بمثابة تذكرة بالقضية وواجب الدور، الذي تفرضه أخوة الدين والإنسانية.
نقص القادرين على التمام
إذا كنا نتحدث عن الأسر البسيطة، من الطبقات الفقيرة أو المتوسطة، بأن تدخر تكلفة وجبة واحدة يوميًا لصالح شعب غزة، فمن باب أولى أن يساهم أبناء الطبقات الثرية، بما يليق بحجم الأزمة، وبما يفرضه عليهم واجب الأخوة الإسلامية والإنسانية. وهؤلاء لا يليق بهم ادخار ثمن أو تكلفة وجبة، بل عليهم أن يبذلوا المال لإنقاذ إخوانهم، وبخاصة أن معظم الحكومات العربية والإسلامية، تعيش حالة من العجز عن انقاذ غزة بشكل عام، وإطعام أهلها بشكل خاص.
فأثرياء العرب والمسلمين، عليهم واجب تحتمه الأوضاع في غزة، ولا يحتاج إلى شرح أو بيان، في ظل تدفق المواد الإعلامية الكثيرة التي تنقل مأساة أهل غزة. هذه القدرة المالية للأثرياء مع العلم بحجم المأساة، تجعل المسؤولية في أعانقهم، لا يمحوها تعلل بصعوبة أوضاع إيصال المساعدات، وقد يكون واجبهم أكبر من المسؤولية المالية، بأن يمارسوا ضغوطًا على الحكومات لتتحرك على الأقل في الملف الإنساني، بسرعة تقديم الطعام والدواء، والعمل على إيقاف عمليات الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على أهالي غزة.