مساومات دولية على مساعدات غزة الشحيحة

29 أكتوبر 2023
مساعدات طبية تصل إلى خان يونس بغزة (getty)
+ الخط -

بعد مناشدات أممية وإقليمية ودولية، وبعد طول انتظار وترقب ومماطلة من جانب دولة الاحتلال الإسرائيلي استمر أسبوعين كاملين، دخلت إلى قطاع غزة قافلة مساعدات إنسانية تضم 20 شاحنة عبر معبر رفح المصري يوم السبت 21 أكتوبر/تشرين الأول، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول بين حركة المقاومة الإسلامية في القطاع، الذي يرزح تحت القصف الهمجي والتهجير القسري والحرمان من الأغذية والمياه والأدوية والمستلزمات الطبية والوقود، وإسرائيل، التي تفرض حصارا مطبقا على القطاع منذ 16 سنة.

ثم تلت القافلة الأولى ثلاث قوافل أخرى بمعدل قافلة واحدة يوميا، بعضها أقل في عدد الشاحنات، ولكنها متشابهة في نوعية المساعدات القاصرة والتي لا تتجاوز الشكلية والرمزية، ومن دون السماح بدخول الوقود ضمن القوافل الأربع جميعا.

صاحبت القافلة الأولى ضجة إعلامية دولية وأممية، وتسابقت الحكومات المعادية والصديقة لغزة ومؤسسات الأمم المتحدة في تبني جهود ومساعي تسيير قافلة المساعدات الإنسانية.

مع قيام إسرائيل بمنع الوقود عن غزة، فقد توقفت مرافق مياه الشرب ومعالجة مياه الصرف ما يجعل الأمور كارثية

الولايات المتحدة أعلنت عن تقديم مساعدات إنسانية بقيمة 100 مليون دولار في مقابل إفراج حماس عن الرهائن المحتجزين لديها، متجاوزة هدف حماس من عملية السابع من أكتوبر، تحرير الأسرى الفلسطينيين وحماية المسرى المقدس.

 

مساندات غربية غير مسبوقة

الولايات المتحدة، التي طالبت باحترام حياة المدنيين في قطاع غزة وتجنيبهم اللوم على ما حصل من حماس، لم تخف دعمها السافر لإسرائيل، بدءا بالدعم العسكري بكل الأسلحة والعتاد والمتفجرات والصواريخ وحاملات الطائرات، وإعلاميا بمحاولة "دعشنة" حماس إلى حد ادعاء الرئيس الأميركي جو بايدن، كذبا وزورا، أنه شاهد بعيني رأسه صورا لأطفال إسرائيليين ذبحتهم حماس، وذلك قبل أن ينفي البيت الأبيض مشاهدة بايدن للصور بنفسه، وأنه فقط سمع عنها من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو!

فضلا عن الدعم الدبلوماسي والسياسي، الذي شمل الزيارات المكوكية لوزير الخارجية أنتوني بلينكن في المنطقة ومحاولات انتزاع إدانة من الزعماء العرب لحركة حماس ووصمها بالإرهابية، وتوج بزيارة مستفزة للرئيس الأمريكي إلى دولة الاحتلال على متن طائرة حربية بعد ساعات من قصف القوات الإسرائيلية مستشفى الأهلي العربي المعمداني وقتلها أكثر من 500 فلسطيني، جلهم من الأطفال الذين كانوا يلعبون في ساحة المستشفى، وبلغت به الجرأة أن يبرئ اسرائيل من الجريمة ويقول إنه "وبناءً على ما رأيته، يبدو أن الأمر قد تم من قبل الفريق الآخر وليس أنتم".

زيارة بايدن هي أول زيارة لرئيس أميركي إلى إسرائيل في وقت الحرب، وعاشر مرة يزور فيها إسرائيل مذ كان عضوا في مجلس الشيوخ سنة 1973 دعما لها في الحرب مع مصر.

بايدن، الذي وصفه السفير الأميركي لدى إسرائيل توماس نيدس، في حفل بسفارة بلاده قبل يوم من زيارته الأخيرة إلى إسرائيل، بأنه الرئيس الذي يعلن بفخر نفسه صهيونياً، لم يكترث بالإبادة الجماعية في غزة، وبرر زيارته إلى إسرائيل بقوله: "لكي يعرف شعب إسرائيل وشعوب العالم أن الولايات المتحدة تقف إلى جانب إسرائيل، وحتى تتأكد الولايات المتحدة من أن إسرائيل لديها ما تحتاجه للدفاع عن نفسها". وهي الزيارة التي عبر عنها رئيس وزراء اسرائيل المأزوم نتنياهو، بسرور منقطع النظير، بقوله إن الشيء الواحد فقط الأفضل من وجود صديق حقيقي مثل بايدن يقف إلى جانب إسرائيل، هو وقوفه في "داخل إسرائيل".

سلك مسلك الولايات المتحدة في تعاملها مع الأزمة بالمعايير المزدوجة والكيل بمكيالين المستشار الألماني أولاف شولتز، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، جميعهم زاروا إسرائيل وتسابقوا في تقديم التضامن المعنوي والدعم العسكري لها، ثم أعلنوا بعد ذلك عن تقديم مساعدات "ضرار" متجملة بغلاف الإنسانية لغزة المغضوب عليها.

 

خذلان عربي

دعنا من موقف جامعة الدول العربية الذي ساوى بين المحتل والضحية. أما الزعماء العرب، فلم يعلن أحدهم عن تضامنه بإرسال المساعدات الإنسانية مباشرة لسكان غزة، فضلا عن اتخاذ قرار جرئ بزيارة القطاع المنكوب كما فعل الزعماء الغربيين مع إسرائيل.

لم يفتح المعبر إلا بعد ثلاثة أيام من إعلان بايدن من داخل إسرائيل عن أن "إسرائيل وافقت على السماح بنقل المساعدات الإنسانية من مصر إلى غزة"

ومصر، التي تشارك قطاع غزة الجغرافيا والتاريخ والعلاقات الاجتماعية المتشابكة، وقالت عنها صحيفة نيويورك تايمز إنها تشارك إسرائيل في حصار قطاع غزة منذ 16 سنة، فقد استثمر الجنرال عبد الفتاح السيسي في الحدث بطريقة مختلفة. وبدلا من المبادرة بالإعلان عن فتح معبر رفح الوحيد الذي تطل منه غزة على العالم باعتبار بلاده صاحبة السيادة عليه، برر الأخير إغلاق المعبر بقصف إسرائيل الجانب الفلسطيني منه.

ذلك أن شبكة سي أن أن الأمريكية هي التي نقلت عن وزير الخارجية الأميركي ، من القاهرة وفي اليوم التاسع من الحرب، قوله إن "معبر رفح سيكون مفتوحًا". ولم يفتح المعبر إلا بعد ثلاثة أيام من إعلان بايدن من داخل إسرائيل عن أن "إسرائيل وافقت على السماح بنقل المساعدات الإنسانية من مصر إلى غزة"، وذلك بعد يومين من تصريح بلينكن.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

وبينما اكتفت الحكومات الداعمة برفع علم بلادها على شاحنات الإغاثة التي دخلت غزة في القافلة الأولى على الأقل، لف النظام المصري حاويات المساعدات الأجنبية بأغطية عليها الأعلام المصرية ولافتات لجمعية الهلال الأحمر المصري، مكتوب عليها عبارات من الشعب المصري إلى الشعب الفلسطيني الشقيق، ومسافة السكة لأهالينا في فلسطين، وحشد برفقة القافلة زفة شعبية وعشرات الإعلاميين والفنانين يهتفون بالتحية والعرفان وحياة الدولة المصرية رغم أن كل المساعدات، أو جلها تقريبا، والتي دخلت عبر المعبر، قدمتها منظمتا الصحة العالمية ويونيسف وقطر وتركيا.

وهو موقف بائس، يضاف إلى سياسة ردم الأنفاق مع غزة وإغراقها بالمياه وتجريف بيوت مدينة رفح المصرية المجاورة لقطاع غزة، لمنع تهريب البضائع عبر الأنفاق من مصر إلى سكان القطاع والقضاء على تجارة الأنفاق التي شكلت 30% من واردات غزة منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، الذي صرح غير مرة برفضه إغلاق تلك الأنفاق وتفضيله استخدامها ورقةً سياسيةً في ملف القضية الفلسطينية الذي ظلت مصر مشرفة عليه لعقود.

موقف الجنرال السيسي لا تمكن مقارنته بالموقف الشجاع الذي اتخذه الرئيس الراحل محمد مرسي عندما قصفت إسرائيل قطاع غزة في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني سنة 2012، وقراره الجريء بفتح المعبر بالتزامن مع القصف الإسرائيلي على القطاع ومن دون تنسيق مع الولايات المتحدة أو تشاور مع لجنة الرباعية الدولية، التي دائما ما كان يتذرع بها مبارك لتبرير قراره الامتناع عن فتح المعبر وتحدي الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة.

موقف السيسي لا تمكن مقارنته بالموقف الشجاع الذي اتخذه محمد مرسي عندما قصفت إسرائيل غزة في منتصف نوفمبر 2012

مرسي قرر أيضا تكليف رئيس الوزراء هشام قنديل بزيارة القطاع عبر معبر رفح ذاته وبرفقة وفد وزاري وبرلماني. وقبل الزيارة، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينها، نتنياهو، تجميد القصف واسع النطاق الذي يشنه جيشه ضد القطاع خلال زيارة قنديل.

 

مساعدات بلا وقود

على رمزيتها ومحدوديتها ونوعيتها القاصرة على بعض الأدوية والمستهلكات الطبية من دون غيرها من المستشفيات الميدانية والمواد الحيوية، مثل الوقود اللازم لتشغيل المستشفيات ومحطات رفع المياه ومحطات الصرف الصحي، جرى تسويق القافلة على نطاق دولي ومن خلال الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية على أنها حلا جذريا لمشاكل الصحة في غزة. حتى إن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس غيبريسوس اعتبرها طوق نجاة للمنكوبين في غزة والمصابين بجروح خطيرة وأصحاب الأمراض المزمنة وغير المزمنة.

في اليوم التالي لتصريحات غيبريسوس، أعلنت وزارة الصحة في غزة عن "الانهيار التام" للمستشفيات، وأن "بقاء أبوابها مفتوحة لا يعني أنها تقدم الخدمة لطوفان الجرحى المتدفق إليها". وقال المتحدث باسم الوزارة إن 12 مستشفى و32 مركزا صحيا خرجت تماما عن الخدمة بسبب الاستهداف ونفاد الأدوية والمستهلكات الطبية والوقود، رغم ما يحتاجه 18 ألف مصاب بجروح مختلفة لعلاجات وعمليات جراحية، وقد ارتفعت حصيلة قتلى الغارات على القطاع إلى 6500 فلسطيني، منهم 2400 طفل و1292 سيدة و295 مسنا. ذلك أن المستشفيات أصبحت خالية من خيوط الجراحة والشاش والقطن وبنج التخدير اللازم لعلاج الجروح وعمليات الولادة، وجميعها تجرى حاليا اضطرارا من دون تخدير وبطريقة لاإنسانية.

وصلت المتاجرة بالقافلة على حساب المنكوبين في غزة إلى حد أن منسق الأمم المتحدة للإغاثة الطارئة مارتن غريفيث تباهى بنجاحه في تحريكها بعد جهود مضنية مع جميع الأطراف، واعتبارها بداية لتوفير الإمدادات الأساسية، بما في ذلك الغذاء والماء والدواء والوقود، لسكان غزة، بطريقة آمنة ومن دون شروط أو عوائق بعد معاناة مريرة لسكان القطاع منذ عقود، وتأكيده أن المجتمع الدولي، بما فيه الأمم المتحدة، لا يمكن أن يستمر في خذلانهم. ثم أثبتت القوافل الأربع، رغم قلتها، أن العديد منها عبارة عن شاحنات محملة بقارورات المياه، وهي لا تكفي موظفي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) المشرفة على توزيع المساعدات.

ورغم أهمية الوقود، لم يتمسك مسؤولو الأمم المتحدة بدخوله ضمن المساعدات، باعتباره مادة حيوية لنقل المساعدات داخل القطاع، وتشغيل محطة الكهرباء الوحيدة هناك، وتشغيل المستشفيات التي أصبحت قبوراً للجرحى، وكذلك تشغيل محطات المياه بدلا من شحن قوارير المياه في شاحنات القافلة إلى القطاع. وبدا أن إسرائيل تساوم بورقة المساعدات.

وقد ظهر ذلك المخطط جليا من خلال الإصرار على تقليل أعداد الشاحنات وتركيزها في جنوب القطاع فقط وحرمان الجهات المشرفة على توزيعها من الوقود اللازم لنقلها إلى شمال القطاع، بهدف تفريغه من السكان بإجبار السكان على الانتقال إلى الجنوب، تمهيدا لاجتياحه بريا كما ظهر من المناورة التي أجرتها صباحا يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول على أطراف القطاع.

 

مساعدات شكلية

القوافل الأربع لا تمثل سوى نقطة من بحر، أو بالأحرى لا تمثل بلغة الأرقام سوى 4% من احتياجات القطاع اليومية وفي الظروف الطبيعية، والتي كانت تزيد عن 500 شاحنة من معبري كرم أبو سالم ورفح محملة بالمواد الغذائية والأدوية والوقود والبضائع الأخرى يومياً.

فضلا عن 600 طن من الوقود يوميا كانت تنقل عبر معبر كرم أبو سالم الإسرائيلي إلى غزة بتمويل من المنحة القطرية، وهي أساسية لتشغيل المستشفيات وسيارات الإسعاف ومحطات المياه والصرف الصحي والمخابز.

القوافل الأربع لا تمثل سوى نقطة من بحر، أو بالأحرى لا تمثل بلغة الأرقام سوى 4% من احتياجات القطاع اليومية وفي الظروف الطبيعية

وبعد حرمان القطاع من دخول 7500 شاحنة منذ بداية الحرب، فإن المساعدات لا تمثل سوى 0.25%، رُبع في المئة، من احتياجات القطاع في الفترة السابقة. وإذا أخذنا في الاعتبار تداعيات الحرب الهمجية التي يشنها الجيش الإسرائيلي بالطائرات الحربية، التي أسقطت على رؤوس السكان المدنيين العزل في غزة آلاف الأطنان من القنابل والصواريخ المتفجرة، وعلى البيوت والمشافي والمخابز، فإن المساعدات لا تعادل حتى الآن ذرات الرماد في العيون، ولا تشكل ورقة توت لستر عورة المجتمع الدولي مدعي الإنسانية. ذلك أن أعداد الجرحى تزيد يوميا بمعل 1000، والقتلى ما بين 400 و700 قتيل يوميا.

في الوقت الذي كان العالم يحتفل فيه بيوم الأغذية العالمي، وهو يوم 16 أكتوبر، حذر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة من أن المواد الغذائية في قطاع غزة تتلاشى بمعدل خطير وسريع في ظل الحرب الشرسة.

وقال إن 80% من سكان غزة كانوا بحاجة إلى مساعدات إنسانية قبل الحرب، أما الآن فالوضع لا يمكن تخيله. ووصف البرنامج قطع مياه الشرب عن غزة وتوقف محطات معالجة مياه الصرف الصحي بالقنبلة الموقوتة التي تهدد حياة 2.4 مليون من السكان الفلسطينيين في غزة، والذين يعيشون في مساحة 140 ميلاً مربعاً فقط، في ظل غياب موارد المياه السطحية.

ذلك أن مضخات المياه الجوفية، وهي البديل الوحيد أمام السكان في ظل الحرب، فإن 4% فقط من المياه المستخرجة منها صالحة للشرب والباقية ملوثة بمياه الصرف الصحي والمواد الكيميائية المتسربة من القنابل والصواريخ التي تسقطها على القطاع بما تحويه من الفوسفور الأبيض والقذائف المحرمة دوليا.

ومع قيام إسرائيل بمنع الوقود عن غزة، فقد توقفت مرافق مياه الشرب ومعالجة مياه الصرف ما يجعل الأمور كارثية، ولولا ظروف الطقس البارد، لتفشت الكوليرا بين سكان القطاع. لذلك فإن قرار منع الوقود بأوامر من إسرائيل يعني ببساطة تحويل القطاع عمدا إلى مقبرة جماعية.

المساهمون