استمع إلى الملخص
- أثار القرار انتقادات واسعة، حيث يُعتبر تحديًا للاستثمار الأجنبي وقد يضر بالعلاقات الاقتصادية مع اليابان، مما يعكس رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على صناعاتها الاستراتيجية تحت السيطرة المحلية.
- تسييس أدوات الأمن القومي في الصفقات الاقتصادية قد يركز السلطة في يد السلطة التنفيذية، مما يضر بالاقتصاد الأميركي ويقوض الثقة في قرارات الحكومة، ويتعارض مع سياسات إدارة بايدن لتعزيز التعاون مع الحلفاء.
رغم أنها نشأت منذ 50 عاما، لحماية الاقتصاد الأميركي من عمليات الاستحواذ الأجنبية لدول منافسة، خاصة الصين، إلا أن لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة "the Committee on Foreign Investment in the United States (CFIUS)"، لم تصدر سوى تسعة قرارات على مدار تاريخها. منها ثمانية قرارات منذ عام 2016، حتى 2024، كلها تتعلق بالصين بينما القرار التاسع والأخير والذي كان مثيرا للجدل، وهو منعها استحواذ شركة "نيبون ستيل" اليابانية على شركة الصلب الأميركية "يو إس ستيل" مقبال نحو 15 مليار دولار، يوم 3 يناير/كانون الثاني الجاري.
ومع أن القرار، الذي أصدرته اللجنة، وتولي الرئيس الأميركي جو بايدن، إعلانه، قيل إنه لأسباب تتعلق بالأمن القومي، بسبب مخاطر استحواذ اليابان على أكبر شركة صلب أميركية هذا القرار، إلا أن السبب الأساسي هو الخطر الاقتصادي بحسب دراسة لموقع أتلانتيك كونسل "Atlantic Council"، في 3 يناير/كانون الثاني الجاري. وصفت فيها الخبيرة الاقتصادية سارة باورل دانزمان القرار الأخير الذي اتخذته اللجنة وصدق عليه بايدن بأنه "قرار تاريخي"، لكنه يشكل تحديا كبيرا وعرقلة للاستثمار الأجنبي في أميركا.
وأوضحت دانزمان الخبيرة في "مبادرة الحكم الاقتصادي" بـ"مركز جيو إيكونوميكس"Geo-economics" أن هذا القرار "يخلق مخاطر مقلقة للوضع الاقتصادي العالمي للولايات المتحدة والتي قد تزداد سوءًا في السنوات القادمة، خاصة مع السياسات الحمائية التي ينوي الرئيس المنتخب دونالد ترامب تنفيذها". وأضافت: "إن القرار هذه المرة يخص حليفا اقتصاديا وسياسيا هو اليابان، وكان يتوقع في حال إتمام الصفقة أن تنتعش صناعة الصلب الأميركية". والقرار الأخير هو الوحيد الذي أصدرته لجنة الاستثمار الأجنبي الأميركية لمنع معاملة لا تربطها علاقات ملكية بالصين.
ومنع الرئيس الأميركي جو بايدن الذي شارفت ولايته على الانتهاء، صفقة الاستحواذ، مشيرا إلى أن الاتفاق يشكل خطرا على الأمن القومي. لكن صحفا أميركية وأوروبية وصفت القرار، الذي استغرق صدروه عاما كاملا من قبل لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، بأنه "ضربة قاضية لخطة الاندماج المثيرة للجدل، وسيضر بالعلاقات الأميركية اليابانية الاقتصادية".
وبرر بايدن في بيان رسمي منع الصفقة الاقتصادية بأن "صناعة الصلب التي يملكها ويديرها أميركيون أولوية أساسية للأمن القومي"، و"بدون إنتاج الصلب المحلي وعمال الصلب المحليين تصبح أمتنا أقل قوة وأقل أمانا".
A committee of national security and trade experts determined that a Nippon Steel acquisition of U.S. Steel would place one of America’s largest steel producers under foreign control and create risk for our security and supply chains.
— President Biden (@POTUS) January 3, 2025
I'm blocking the deal.
وكانت شركة "نيبون ستيل" قد قدمت أعلى عرض بقيمة 14.9 مليار دولار خلال مزاد أقيم في ديسمبر/كانون الأول 2023، للفوز بصفقة الاستحواذ على ثاني أكبر شركة منتجة للصلب في الولايات المتحدة. وفي 6 أكتوبر/تشرين الأول، 2024، وافقت هيئة تحكيمية على استحواذ نيبون ستيل على يو إس ستيل، رغم اعتراض نقابة عمال الصلب والرئيس جو بايدن، ثم حسمت لجنة الاستثمار الأميركية العرض بالرفض، وقرارها مُلزم للرئيس.
ويقول محللون أن الرفض يعكس رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على صناعاتها الاستراتيجية تحت السيطرة المحلية في مواجهة التحديات العالمية، خصوصا مع صعود النفوذ الاقتصادي والعسكري للصين. لكن مسؤولا أميركيا قال إن بعض الوكالات الفيدرالية الممثلة في لجنة الاستثمار لم تكن ترى في السماح لشركة يابانية بشراء شركة صناعة صلب مملوكة لأميركا أي مخاطر على الأمن القومي، بحسب صحيفة واشنطن بوست في 3 يناير الجاري.
ثلاثة مخاطر على الاقتصاد الأميركي
وتقول الخبيرة الاقتصادية في "مركز جيو إيكونوميكس"، سارة باورل دانزمان، إن تعطيل ورفض الصفقة اليابانية ينطويان على ثلاثة مخاطر كبيرة على الاقتصاد الأميركي. وأشارت إلى أن الخطر الأول تمثل في أن "القرار سوف يخلق مخاطر مقلقة للوضع الاقتصادي العالمي للولايات المتحدة والتي قد تزداد سوءًا في السنوات القادمة".
وأضافت أن "حظر هذه الصفقة اليابانية من شأنه أن يشكل تغييراً جوهرياً في الكيفية التي تعتمد عليها لجنة الاستثمار الأجنبي في تقييم الاستثمارت، حيث كانت هيئة نائمة وغير مفهومة إلى حد كبير، ثم نشطت منذ عام 2018 بعد تحديث من الكونغرس لنشاطها لتتصدى للاستثمارات الصينية، فأصدرت ثمانية قرارات حظر كلها ضد الصين والتاسع فقط كان ضد اليابان" بحسب الخبيرة الاقتصادية.
وحذرت الشركة الأميركية "يو إس ستيل" من أنها بدون أموال شركة "نيبون ستيل" فإنها "سوف تحول إنتاجها بعيداً عن أفران الصهر القديمة إلى أفران قوس كهربائية أرخص وغير تابعة لنقابات العمال، وستنقل مقرها الرئيسي خارج بيتسبرغ، ما يعني تضرر العمال الذين ادعى بايدن ولجنة الاستثمار أنهم يحمونهم بهذا القرار. ورفعت شركتا يو.إس ستيل ونيبون ستيل دعوى قضائية على الإدارة الأميركية قالتا فيها إن الرئيس جو بايدن منع دون سند من القانون العرض من خلال مراجعة "وهمية" لاعتبارات الأمن القومي. وقال الرئيس التنفيذي لشركة "نيبون ستيل" اليابانية إيجي هاشيموتو اليوم الثلاثاء، إن الشركة ثابتة على موقفها بشأن استحواذها المقترح على "يو إس ستيل".
وقالت الشركة اليابانية (نيبون ستيل) عقب قرار بايدن الجمعة الماضية، إن أميركا سوف تخسر صناعة الصلب لمصلحة الصين. وأصدر "ديفيد ب. بوريت"، الرئيس والمدير التنفيذي لشركة الصلب الأميركية (يو إس ستيل)، بيانا غاضبا من بايدن قال فيه: "لقد أهان الرئيس بايدن اليابان، وهي حليف لا غنى عنه اقتصاديًا وأمنيًا قوميًا، ويعرض القدرة التنافسية لأميركا للخطر، سوف يضحك الاشتراكيون في بكين الآن".
Statement from David B. Burritt, President and CEO, on Today’s Order by President Biden.https://t.co/85iuRNiCAM pic.twitter.com/h6rbOgiitW
— U. S. Steel (@U_S_Steel) January 3, 2025
وكتبت شركة الصلب الأميركية على صفحتها تقول: "الصين تريد فشل هذه الصفقة، لا تسمحوا لهذا بأن يحدث"، وتؤكد أن "الفوائد الاقتصادية لاستثمارات شركة نيبون ستيل اليابانية في الشركة الأميركية المضمونة قيمتها مليار دولار". ويقول مؤيدو استثمار اليابان في أكبر شركة لصناعة الصلب الأميركية، إن الشركات الصينية تنتج ما يقرب من 60% من إنتاج الصلب العالمي، مقابل 6% فقط تنتجها الشركات الأميركية، ما يعني أنه من الصعب تصور أن تستطيع الولايات المتحدة وحدها مواجهة الهيمنة الصينية العالمية في إنتاج الصلب.
أما الخطر الثاني المترتب على منع الصفقة، كما ترصده الخبيرة دانزمان، فهو خطر تجاوز الأمن القومي بحجة حماية الاقتصاد الأميركي، إذ لا يملك الرئيس سلطة منع عمليات الاستحواذ الأجنبية إلا عندما تقرر لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة أن الصفقة تنطوي على مخاطر غير مقبولة تهدد الأمن القومي.
والمفارقة هنا أن "الأمن القومي في حد ذاته لا يُعرَّف في القانون، بل يعكس تحليلاً لكل حالة على حدة من قِبَل لجنة الاستثمار الأميركية"، أي أن الأمر يخضع لمزاج أو رغبات الأعضاء والهيئات المختلفة الممثلة في اللجنة، وفق دراسة "أتلانيتك كونسل".
وانتقدت "نيبون ستيل" اليابانية، و"يو إس ستيل" الأميركية، قرار منع الصفقة، وقالتا في بيان مشترك إنه "تم التلاعب بصفقة اقتصادية من أجل تعزيز الأجندة السياسية للرئيس بايدن". كما أن قرار بايدن ولجنة الاستثمار "توسع كبير في الطريقة التي تفسر بها لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة الأمن القومي تقليديًا".
كما يتعارض القرار مع "الأمر التنفيذي الصادر عن إدارة بايدن في سبتمبر/أيلول 2022 والذي حدد العوامل التي تجب على لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة مراعاتها عند إجراء مراجعات الأمن القومي، حيث حدد الخطر في سلاسل التوريد الحرجة ولم يشمل الصلب. "وهو ما يفتح هذا الباب أمام مزاعم استغلال مخاوف الأمن القومي من أجل تحقيق مصالح حلفاء اقتصاديين محليين أميركيين لهم علاقة بالإدارة الحاكمة، بما يشكك في شرعية تصرفات الحكومة الأميركية وقد يؤدي إلى انخراط دول أخرى في تفكير مماثل لحماية صناعاتها بطرق تضر بالمصالح التجارية الأميركية" بحسب الخبيرة الاقتصادية.
تسييس أدوات الأمن القومي في الصفقات الاقتصادية
أما الخطر الثالث وفقاً لـ"دانزمان"، فهو خطر تسييس أدوات الأمن القومي في الصفقات الاقتصادية، حيث سيؤدي إلغاء الصفقة لمشكلة أكبر، فقد أُنشئت اللجنة بهدف نزع الصفة السياسية عن المعاملات الاقتصادية البارزة والمثيرة للجدل، وضمان إمكانية وقف الاستثمار الأجنبي إذا كان يمثل تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي، لكن ما يحدث هو تحولها بهذه الطريقة إلى التحكم لمصلحة دائرة انتخابية قوية سياسياً في شؤون اقتصادية، بينما الحد من تدخل الحكومة في الأنشطة التجارية للجهات الفاعلة الخاصة أمر أساسي لاقتصاد السوق".
ويقول خبراء اقتصاد أميركيون إن قرار بايدن بمعارضة هذه الصفقة منذ البداية، وقبل اكتمال تقرير لجنة الاستثمار الأجنبي، يشير إلى أن عزمه على منعها اتخذ على أسس سياسية لا اقتصادية ما سيعود بالضرر على الاقتصاد الأميركي. ويحذرون "من قيام الشركات الأخرى بممارسة الضغط لإعاقة الصفقات التي تشمل منافسين في صناعاتها في المستقبل". و"ماذا لو هدد رئيس مستقبلي بمنع صفقة تشمل شركات يرى أنها لا تشيد بإدارته بالقدر الكافي، أو شركات لم تتبرع لحملته الانتخابية؟".
ويؤكد الخبراء إن تسييس لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، إلى جانب أدوات اقتصادية أخرى تتعلق بالأمن القومي، من شأنه أن يركز قدراً هائلاً من السلطة في يد السلطة التنفيذية التي يمكن إساءة استخدامها بسهولة، خاصة مع وصول ترامب للرئاسة، والذي يتوقع أن يكون صاحب أكبر سلسلة قرارات حمائية قد تضر الاقتصاد الأميركي وتقوقعه على الداخل.
ويؤيد "مركز فرينبيرف للدراسات الجيواقتصادية" في تقرير أصدره في 3 يناير/كانون الثاني الجاري، هذا الخطر الثالث المتعلق بتسييس قرارات لجنة الاستثمار ويحذر من أن منع الاستحواذ على شركة نيبون ستيل معناه تحويل القضية الاقتصادية إلى سياسية. وأكد أنه من المرجح أن يؤدي قرار بايدن بمنع شركة نيبون ستيل من شراء شركة يو إس ستيل إلى "تقويض المصالح الأميركية الاقتصادية بدلاً من تعزيزها".
ودعا رئيس الحكومة اليابانية شيغيرو إيشيبا، الذي يلتقي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الثلاثاء، واشنطن إلى شرح المخاطر المتعلقة بـ"الأمن القومي" التي دفعتها إلى رفض الصفقة، من أجل "تبديد المخاوف" لدى الصناعيين اليابانيين. وتخشى دوائر الأعمال حدوث "تأثير مثبط" للاستثمارات المستقبلية في الولايات المتحدة، حيث تعدّ اليابان المصدر الرئيسي للاستثمار الأجنبي المباشر والتي بلغت نحو 14,5% من الإجمالي في العام 2023.
ويؤكد "ماثيو ب. غودمان" مدير المركز، إن "هذه الخطوة من شأنها أن تلحق الضرر بثلاث من أولويات السياسة الخاصة بإدارة بايدن". أولاها: إضعاف القدرة التنافسية الاقتصادية الأميركية ومرونة سلسلة التوريد، وثانيها، تقويض جهود إدارة بايدن لكسب دعم الحلفاء في تعزيز مجموعة من المصالح الأميركية، كانت اليابان شريكا وثيقا فيها. وثالث هذه الأضرار، أن القرار من شأنه أن يضعف أداة حاسمة من أدوات الأمن القومي هي لجنة الاستثمار الأجنبي، لأن الاستحواذ الياباني على شركة الصلب الأميركية لا يشكل أي تهديد جدير بالثقة للأمن القومي.