أتى التسرب الوظيفي في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري على قطاعات مختلفة ومتعددة في الدولة، وذلك مع الانهيار المستمر لليرة السورية أمام العملات الصعبة، ما جعل القيمة الشرائية للرواتب والمعاشات منخفضة جدا في السوق المحلية، فلم يعد مجمل الراتب يكفي ثلاثة أيام من أسبوع، وليس من الشهر.
ويأتي التسرب بأشكال مختلفة، فجزء كبير من الموظفين تركوا وظائف الدولة بعد خروج مناطقهم على سيطرة النظام أو لكونهم مطلوبين أمنيا بسبب مشاركتهم في الحراك الذي اندلع ضد رئيس النظام بشار الأسد ربيع العام 2011، وجزء آخر كان ركب البحر إلى دول أوروبية أو لجأ إلى دول الجوار فبات لاجئا لا يفكر بالعودة إلا مع حل سياسي شامل ونهائي للقضية السورية.
أما الجزء الأكبر فهم الذين قدموا استقالاتهم أو عزفوا عن الذهاب إلى وظائفهم بسبب انخفاض القيمة الشرائية للراتب، وأساسا باتوا يقارنون الذهاب لمكان الوظيفة بقيمة المواصلات التي يدفعونها للذهاب إلى الوظيفة، وفي بعض الأحيان تكون تكلفة المواصلات أكبر من حجم الراتب نفسه.
ويأتي امتناع شريحة الشباب (من الجنسين) عن الالتحاق بالوظائف الحكومية، ليزيد من نقص الكادر البشري في مؤسسات الدولة، ما جعل حكومة النظام تهم بدراسة إعادة المتقاعدين لترميم النقص الحاصل. ونقلت صحيفة "البعث"، وهي الصحيفة الناطقة باسم الحزب الحاكم، بأن "وزارة التنمية الإدارية تجتهد لوضع التشطيبات النهائية على دراسة حكومية، بالتنسيق والتشاور مع الوزارات والمؤسسات المعنية.
ومفادها الوقوف على إمكانية الاستعانة بالعديد من الكفاءات المحالة إلى التقاعد خلال الخمس سنوات السابقة، في خطوة جاءت (بحكم الضرورة والحاجة) للاستعانة بخبرات (عتيقة وعميقة) تساهم في ترميم فجوة بعض الاختلالات الإدارية والإنتاجية التي يعاني منها الكثير من المؤسّسات الحكومية بفعل تعرّض مفاصلها ومواردها البشرية لخلل كبير جراء موجات التسرب الواسعة ونقص الكوادر، وذلك في قلة "الرغبة بالانخراط في الوظيفة العامة عند الشباب لمحدودية الرواتب".
وأشارت الصحيفة إلى أن من السيناريوهات لإعادة المتقاعدين "طرح فكرة توزيع استمارات من قبل النقابات المتخصّصة يمكن أن يملأها المتقاعد الراغب بالعمل في الشأن العام، تتضمن معلومات وبيانات وسيرة ذاتية تشمل الشهادات والمواقع والتدرجات الوظيفية كل حسب الاختصاص الذي عمل به، والجديد الذي يتمّ الإصرار عليه هو التأكيد على الحالة الصحية والبنية الجسدية التي تمكن المتقاعد الراغب بالتعاقد من القيام بالمسؤوليات المطلوبة منه".
وتوقعت مصادر للصحيفة أن "يأخذ هذا التوجّه وقتاً ليس بالطويل للقناعة بأن المشروع له طابع (الإسعافي – الإنقاذي) لحاجة بعض المؤسسات بعينها.
يمنّي المتقاعد (ي .ش)، القاطن في محافظة السويداء جنوبي سورية، نفسه بالعودة إلى وظيفته في مديرية المالية بعد ثلاث سنوات من التقاعد، على الرغم من أنه لم يسمع بالدراسة الحكومية الجديدة التي تقترح عودة المتقاعدين لملء الفراغ في المؤسسات والدوائر الرسمية.
وقال لـ"العربي الجديد" إنه "بعد التقاعد عمل بأرضه التي تحتاج لعمل حثيث دون جدوى مادية بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة والمتردية يوماً بعد يوم، ما أدى لعجزه عن زراعة الأرض بسبب عدم قدرته على شراء المواد الأولية والمحروقات".
ورغم ذلك؛ يؤكد أنه راغب بالعودة إلى الوظيفة لعدة أسباب، أهمها "محاولة سد ثغرة في كفاحه اليومي لتأمين مصروف ابنه الجامعي، وملء وقته المهدور، مشيراً إلى أنه يعلم تماماً ما هي الوظيفة العامة وتبعاتها، لكنه سوف يتقدم للعودة رغم ذلك كونه لن يدفع أجور مواصلات وسوف يقضي وقتاً مفيداً".
في مقابل ذلك، تطمح المدرّسة (س ص) لقبول استقالتها من وظيفتها الحالية، وحصولها على موافقة أمنية لذلك، على الرغم من رفض السلطات السورية إعطاء موافقات أمنية للموظفين بسبب النقص الحاصل في كل الدوائر الحكومية وخاصة المدارس.
وتبين (س) أن رغبتها بالاستقالة، تنبع من عدم جدوى الانتظار لتحسّن الوضع المعيشي، وعدم اهتمام النظام السوري باتخاذ أي خطوة تشعر المواطن بأن هناك من يلتفت له صحياً وأمنياً ومعيشياً، خاصة أن الراتب لم يعد يكفي لسد أجور المواصلات.
وشهدت مدينة صلخد جنوب السويداء في السنة الدراسية الماضية، إقدام عدد من المدرسين المتقاعدين على العودة للتدريس المجاني في مدارس المدينة بسبب نقص المدرسين، وخاصة للمواد العلمية، لكنها ظلت مبادرة دون تنظيم، واقتصرت على توجيه مديرية تربية السويداء بالشكر.
المتقاعد من سلك التعليم عدنان سالم (اسم مستعار) أبدى في حديث لـ"العربي الجديد" استعداده للعودة لسلك التعليم وفق الخطة الحكومية المزمعة، مبرراً سبب هذه الرغبة بالفراغ الذي حصل في حياته نتيجة التقاعد وابتعاده عن المهنة التي يحبها رغم قناعته بضآلة الراتب، ولكن يرى أن رسالته أسمى من أي مقابل مادي.
وحول نجاعة الفكرة يقول سالم إنه لا يمكن لأحد أن يتوقع الأفصل من أي قرار او خطة حكومية، ولكننا "نبقى محكومين بالأمل بأن تتحسن الأوضاع لا أكثر"، بحسبه.
في المقابل، ترى موظفة مستقيلة ذات 35 عاماً فضلت عدم نشر اسمها، أن الحكومة تتسول الخبرات تسولاً وتحاول إنقاذ فشلها باستغلال خبرات قديمة بعد أن أصبحت الوظائف الحكومية آخر خيارات الخريجين الجدد ومن الإناث حصراً، لذلك ترى أن هذه التجربة محكومة بالفشل ما لم تعدل الحكومة سياساتها المالية بالنسبة للأجور الوظيفية التي لا تتناسب والواقع المعيشي والاقتصادي.
وتشير إلى أن الخلاص ليس بفتح الباب لعودة "الهرمين وظيفيا"، بل بتحسين الواقع الوظيفي وتمكين الشباب الجديد من إدارة الأمور، ما تعتبره أمراً لا تحبذه الحكومة التي تسعى جاهدة لطمس الفكر المتجدد الذي لا يتماشى مع الأسلوب المتبع في الروتين والبيروقراطية المتبعة، والفساد المطلوب أساساً.
من جهته يشير اختصاصي الإدارة والاقتصاد، عبد الناصر الجاسم، إلى أن هذا النمط من السياسات تلجأ له الحكومات في قطاعات محددة وعلى نطاق ضيق، باستهداف شريحة الخبرات والكفاءات العالية، لكن الخطة التي تهم حكومة النظام بالإقدام عليها، لا يمكن أن تغطي الفجوة الحاصلة في القطاع الحكومي، لا سيما أن نوع العمالة المطلوبة لهذا القطاع، هو النوع الاعتيادي الذي لا يحتاج إلى مهارات وتخصصات نادرة.
ترى موظفة مستقيلة ذات 35 عاماً فضلت عدم نشر اسمها، أن الحكومة تتسول الخبرات تسولاً وتحاول إنقاذ فشلها باستغلال خبرات قديمة
ويضيف الجاسم لـ"العربي الجديد"، أن "هناك نقصا في جميع القطاعات الحكومية، ولا يمكن لهذا الخطوة، أي التعاقد مع المتقاعدين، سد الخلل الحاصل"، ويشكك الجاسم أساسا برغبة الكثير من المتقاعدين بالعودة، نظرا لانخفاض رواتب التعاقد في سورية، والذي يكون أقل بكثير من راتب الموظف العادي، وهو راتب منخفض أساسا".
ويعتقد الأكاديمي الجاسم، أن "هذه الخطوة قد تكون بابا جديدا من أبواب الفساد الحكومي لدى النظام، سيما أن القطاع العام أو الحكومي لا يركز على الكفاءات والخبرات، بقدر ما أنه سيسد بعض الخلل، وهذا ما قد يفضي لاستفادة أشخاص دون آخرين بموجب المحسوبيات والوساطات".
وتفيد سجلات مؤسّسة التأمينات الاجتماعية في حكومة النظام، بأن هناك 750 ألف متقاعد مسجل، جلّهم وفق قراءات الواقع ينشطون في أعمال وميادين شتى قد لا تكون من اختصاصهم، ففي دراسة سابقة أجرتها الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان، خلُصت إلى أن 95 بالمائة من المسنين يقومون بعمل إضافي بعد التقاعد لزيادة دخلهم.
فيما كشف مكتب الإحصاء المركزي أن معظم المسنين يمارسون أعمالاً شاقة لأنها توفر دخلاً ممتازاً مقارنة بالأعمال الأخرى، في ظل معاناة معيشية قاسية تجمع الموظف والمتقاعد في آن، يضاف إليها الجانب المتعلق بفاتورة الاستشفاء والأدوية المزمنة للمتقاعدين.
وتتراوح رواتب الموظفين العاديين بين 350 ألف ليرة (25 دولارا)، كحد أعلى و185 ألفا كحد أدنى (13 دولارا)، بينما تتراوح الرواتب التقاعدية للموظفين العاديين بين 250 ألف ليرة (17 دولارا) و125 ألف ليرة (9 دولارات)، ولفئة المتعاقدين بعقود مؤقتة تتراوح الرواتب بين 200 ألف (14 دولارا) و80 ألف ليرة (6 دولارات) للمدرسين بالوكالة.