ثمة تبار بالعبقرية وابتداع المصطلحات وطرح النظريات، مستمر ومتصاعد، بين رئيس النظام السوري وحكومته، فما أن يرمي بشار الأسد بحقيقة اقتصادية جديدة، من عيار أن سبب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في سورية، هي ودائع بمليارات الدولارات لسوريين محتجزة في القطاع المالي اللبناني...
ويضيف ما يلزم، لدعم الفكرة "تلك الأموال هي جوهر المشكلة التي لا يحكي عنها أحد"، متجاهلاً كل ما هدمته آلته الحربية ومساعي شركائه، بموسكو وطهران، من بنى وهياكل مؤسسية وقتل وتهجير للكفاءات وطرد للأموال والاستثمارات.
حتى يشعر وزير المال، كنان ياغي، أنه أمام استحقاق طرح منافس، أو منطلق لبناء نظرية على الأقل، تعيد طرائق رؤية الظواهر وتقدم تفسيراً جديداً لسلوك مختلف العناصر الاقتصادية.
ولأن الفقر والجوع هما سيدا المشهد السوري، والحل يكمن بتحسين المستوى المعيشي عبر رفع الأجور، قال ياغي أساس نظريته "إن أي زيادة على رواتب الموظفين تتطلب تأمين السيولة اللازمة لها، وأن تأمين السيولة لزيادة الرواتب هو الهدف الذي تسعى إليه الوزارة وتضعه على رأس أولوياتها" ضامناً بهذا، كما العالم الذي استدعاه الملك لتفسير الماء، عدم قطع رأسه وإن لم يحصل على المكافأة.
هنا، تسلطت الأضواء جميعها على رئيس حكومة الأسد، حسين عرنوس، فما التحفة التي يمكن أن يضيفها لعلوم الاقتصاد، بواقع يعجّ بالإبداع والاختراع.
وفعلاً، لم يخيّب عرنوس المنتظرين وثقة القائد الملهم، فأطلق قبل ايام قنبلته التي دوّت خيبة واحتقانا بالشارع ودهشة وثناء لدى نظام الأسد الرشيد" ما حدث من رفع سعر المازوت من 180 إلى 500 ليرة والخبز من 100 إلى 200 ليرة، هو ليس زيادة بالسعر، بل تحريك له".
ولأن نسبية عرنوس التي تدهش أينشتاين بقبره، تحتاج تفسيراً وشروحات، قدم الرجل المطلوب، بعلمية ومنطقية ممزوجتين ببعض فلسفة" ما جرى هو تحريك سعر المادة وليس زيادة في سعرها، لأن تكلفة تلك المواد ما زالت أعلى من سعر مبيعها".
وليستوي القول والمعنى، كان لا بد من تذكير السوريين بأنهم يبددوا أموال خزينة الدولة عبر دعمهم بالمأكل والتدفئة، بصرف النظر عن القدرة الشرائية أو توفر المواد" ربطة الخبز تكلف الحكومة 1200 ليرة، وليتر المازوت يكلف 1967 ليرة، لذا كان لابد من التحريك البسيط في سعرهما، بهدف المحافظة على تأمينهما". ولسان حاله يقول، للأسد وياغي، "أليست نظرية مكتملة الأركان يا مسؤولين ويا بتوع المدارس".
قصارى القول: مهما تعددت تعريفات الاقتصاد، بين دراسة الندرة والوفرة والاختيارات أو النشاط الذي يركز على الممارسات المادية المرتبطة بإنتاج الموارد واستخدامها وإدارتها، أو حتى دراسة العلاقة بين حاجات الإنسان وموارده، بهدف إشباع هذه الحاجات بالاستخدام الأمثل لهذه الموارد، فإن غايته لم ولن ولا يمكن أن تخرج عن الإنسان، بل وربما معدته قبل استقراره ورفاهيته.
لكن نظام الأسد وبجميع أركانه، يشغلهم الإدهاش والابتكار ووضع علماء الاقتصاد، من الأب آدم سميث ثم كارل ماركس وكينز وصولاً لفريدمان بموقع البائس وربما الشاعر بتخلف ما طرح، لأن الانشغال بـ"المشاعر الأخلاقية" طغت على نظرياتهم، في حين علماء سورية الأسد، يفصلون بين العمل والمشاعر.. وليذهب السوري ومعدته ورفاهيته إلى الجحيم.
نهاية القول: الأرجح أن السوري الذي يتقاضى، بعد الزيادة 75 ألف ليرة سورية "نحو 23 دولاراً" وتزيد كلفة معيشته عن مليون ليرة، غير معني بتفسير النظريات ولا بما قاله "عرنوس" أمس، من أن خطة الحكومة كانت رفع الأجور 100% لكن التمويل سيكون بالعجز ما يؤدي إلى التضخم وآثاره الكبيرة.
بل وغير مقتنع، إن انشغل بالتفسير، من أن زيادة الأجور سترتب على الموازنة العامة 84 مليار ليرة شهرياً، في حين عائد رفع سعر المازوت لا يزيد عن 64 ملياراً.
وعدم القناعة لا تأتي من ابعاد عرنوس عائدات ما قبل المازوت، وحساب أموال جباية رفع سعر البنزين قبل أسبوع أو الخبز بنسبة 100% بل وحتى رفع سعر علف الحيوانات 60%، بل ولأن السوري يرى أن نظامه الوراثي القدري، يبعد التكاليف والعجز والنظريات، خلال دفع ملايين الدولارات يومياً، لقتل وتهجير إخوته الذين طالبوا بالكرامة والعدالة بمنح الفرص وتوزيع الثروة.
ويرى آخر طرازات الموبايل بأيدي آل النظام وصحبه وهم يجوبون الشوارع بآخر طرازات السيارات... ويوقن، وهو الأهم، أن لا خلاص لسورية وشعبها، من الاحتلال والفقر والتقسيم والذّل، إلا بزوال هذا النظام بكل أركانه، وإن حُرم السوريون من النظريات والعباقرة.