قامت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبعض حلفائهما بإصدار ترسانة من العقوبات الاقتصادية لكبح جماح الغزو الروسي لأوكرانيا، مثل استبعاد بعض المصارف الروسية من نظام "سويفت" الدولي، وفرض عقوبات ضد البنك المركزي الروسي، وتعليق خط أنابيب الغاز الطبيعي "نورد ستريم 2" الذي بلغت تكلفة إنشائه نحو 11 مليار دولار، ومحاصرة الشركات الروسية والأغنياء والأقوياء في الدائرة المقرَّبة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالعقوبات، وقطع التمويل عن 13 شركة روسية مملوكة للحكومة، واتِّخاذ عدّة إجراءات لتقويض قدرة روسيا على ممارسة أعمالها التجارية بالعملات الرئيسية في العالم، وخنق التجارة الخارجية الروسية، ووضع قيود صارمة على استيراد روسيا للسلع التكنولوجية الضرورية لإقامة اقتصاد متنوِّع، وحظر شراء ديون روسيا وتجميد أصولها في الاتحاد الأوروبي، ووقف وصول البنوك الروسية إلى الأسواق المالية الأوروبية، حيث تهدف القوى الغربية إلى تكبيد روسيا ثمناً باهظاً وخسائر مالية جمّة دون اللّجوء إلى تحرُّك عسكري غير محمود العواقب وتسعى إلى نبذها من المسرح الاقتصادي العالمي لتُوصلها بعد ذلك إلى نقطة وقف القتال والدخول في جولة حاسمة من المفاوضات.
في الواقع، سيتضرَّر المواطن الروسي الفقير من لسعة العقوبات أكثر بكثير من النخبة القادرة على إيجاد حلول بديلة للحصول على الأموال داخل أو خارج البلاد، فبعد أن ضمَّت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، سرعان ما فرضت عليها الولايات المتحدة حزمة من العقوبات الاقتصادية استهدفت بشكل أساسي وصولها إلى الأسواق المالية وقدرتها على تصدير المعدّات العسكرية.
ورغم ذلك لم تلحق تلك العقوبات أضراراً جسيمة بالفعل بالاقتصاد الروسي، ولم تلعب دوراً في ترويض الدب الروسي، بل على العكس من ذلك دفعت الرئيس بوتين إلى انتهاج سياسة تقشُّف شديدة تضرّ بالشعب والبلاد من أجل المضي قدماً في سياسته الخارجية العدوانية.
كما يضمّ تاريخ العقوبات سجلّاً حافلاً بحالات الفشل المتكرِّرة، حيث لم تتمكَّن العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا من طرد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وفشلت أفعال مماثلة ضدّ كوبا في التخلُّص من الديكتاتور فيدل كاسترو، ولا يزال حكم الملالي في إيران مستمرّاً على الرغم من أكثر من أربعة عقود من الإجراءات الأميركية القاسية ضد النظام الإيراني، والنقطة المثيرة للاهتمام في العقوبات الغربية هي أنّها غالباً ما تدفع البلد الخاضع لها إلى الالتفاف حول العلم وتحفِّز مواطنيه بشكل أكبر على الاتِّحاد لمواجهة التداعيات الاقتصادية.
ما يزيد من تعقيد الوضع في روسيا من وجهة نظر القوى الغربية هو أنّ أيّ تهوُّر في فرض عقوبات صادمة ومرعبة لروسيا سيؤدِّي لا محالة إلى إلحاق الضرر بأوروبا بقدر إلحاق الضرر بروسيا، ففي حين أنّ أميركا وروسيا لا تعتمدان على بعضهما البعض في الكثير المجالات، لا ينطبق الوضع ذاته على أوروبا التي يصعب عليها الاستغناء عن روسيا عندما يتعلّق الأمر بالطاقة، لا سيَّما على المدى القصير والمتوسِّط.
وخلال العام الماضي، أيقنت أوروبا أنّ انعدام الأمن في مجال الطاقة يشكِّل خطراً حقيقياً وقائماً بعد أن تسبَّب انخفاض تدفُّقات الغاز الطبيعي من روسيا إليها في حدوث نقص في الطاقة وارتفاع تكاليفها بالنسبة للشركات والمستهلكين على حدٍّ سواء، وبالرغم من ذلك لا يمكن إنكار مدى حاجة روسيا إلى الإيرادات المتأتية من صادرات الطاقة نحو أوروبا التي تشكِّل حوالي 40 بالمائة من الميزانية الفيدرالية للبلاد، وبدون تلك الأموال ستكون هناك فجوة كبيرة في محفظة الحكومة الروسية، وبالمقابل تدرك الولايات المتحدة جيِّداً علاقة المنفعة المتبادلة هذه بين أوروبا وروسيا، لذلك فهي تحسب ألف حساب قبل إنزال عقوبات يمكن أن ترتدّ سلباً على أوروبا.
من ناحية أخرى، روسيا في عام 2022 تختلف كثيراً عما كانت عليه في الفترة 2014-2015، فقد كانت روسيا أضعف بكثير من الناحية الاقتصادية في ذلك الوقت نتيجة الهبوط الحادّ في قيمة الروبل الروسي وانهيار أسعار النفط.
وعلى مدى السنوات السبع الماضية، تمكَّنت روسيا من إعادة الاستقرار إلى نظامها المالي ورفع احتياطاتها من الذهب والعملات الأجنبية إلى 640 مليار دولار، وهذا ما يزيد من قدرتها على تحمُّل القيود التي تفرضها العقوبات الاقتصادية الغربية، وهي حقيقة لم تغب أيضاً عن الإدارة الأميركية التي تدأب على إيجاد أكثر العقوبات قساوة دأباً لم يعرف السأم والملل.
فقد لوَّح الرئيس الأميركي جو بايدن إلى احتمال استبعاد روسيا من نظام سويفت المالي المتخصِّص في تبادل المعلومات حول المعاملات المالية العالمية والتابع لجمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك SWIFT التي تتَّخذ من بلجيكا مقرّاً لها، ويتطلَّب قيام أميركا بحظر روسيا من هذه المنصة الحصول على موافقة حلفائها الأوروبيين ومصادقة بروكسل على هذا القرار الذي سينسف سمعة الجمعية وحياديتها ويؤكِّد خضوعها للسيطرة الأميركية.من جهتها حسبت روسيا حساب اليوم الأسود وعملت خلال
السنوات الماضية على تطوير بدائل أخرى لتحقيق إزالة "الدولرة" كالروبل الرقمي ونظام تحويل الرسائل المالية SPFS الذي يضمّ حوالي 400 مستخدم ولا يحظى لحدّ الآن بشعبية كبيرة في روسيا على الرغم من ضغوط الحكومة الروسية المحرِّضة على استخدامه، ومن المستبعد أن تُنبَذ روسيا من نظام سويفت المالي كما نُبِذت منه إيران، لأنّ ذلك سيؤدِّي إلى حرمان مستوردي الطاقة الروسية المُقوَّمة بالدولار من إبرام صفقاتهم وإقصاء الشركات الغربية العاملة في روسيا والمتعاملين معها من المعاملات المالية العالمية، حيث تدرك أوروبا جيِّداً أنّ موافقتها على هذا القرار تعني حتمياً إغلاق صنابير الغاز الطبيعي الروسي الذي لم تجد له بديلاً مثالياً.
خلاصة القول، تدرك القوى الغربية عواقب إلحاق الضرر الجسيم بدولة بترولية، مُسلَّحة نووياً، تمتدّ عبر قارة وقادرة على التكيُّف مع أشدّ الظروف الاقتصادية صعوبة ومتكاملة اقتصادياً مع جيرانها، ولن تُطبِّق عقوبات مُدمِّرة إلا إذا كان التهديد الروسي المباشر للغرب أعلى بكثير مما هو عليه الآن، وبالرغم من أنّ الغرب يبدو متَّحداً الآن، إلاّ أنّ ذلك قد لا يدوم طويلاً.