عقدت جامعة "غلاسكو" الاسكتلندية مؤتمراً يوم الخامس من شهر يونيو/ حزيران الماضي، للاحتفال بالمئوية الثالثة على ميلاد الفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث.
وقد كان من أبرز المتحدثين في ذلك المؤتمر نائبة المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي، واسمها غيتا غوبيناث (Gita Gopinath)، والتي عنونت خطابها "قوة اليد الاصطناعية ومخاطرها: دراسة للذكاء الاصطناعي عبر أفكار آدم سميث".
وقد أثار ذلك الخطاب كثيراً من المخاوف من التمدد السريع على المستويين الأفقي والرأسي للذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، والتحديات والتهديدات الناجمة عن ذلك.
وما عزز من المخاوف هو بالطبع إطلاق برنامج (GPT chat) الذي بدت الآفاق أمامه واسعة ومربكة إلى حد أنها عممت وعمقت المخاوف من تحول تكنولوجي كبير يجعلنا نحن أبناء اليوم أو أبناء أمس، نبدو جيلاً قديماً، يرى فيه أبناء الغد الغبار يخرج من أفواهنا كلما بدأنا نتحدث أو نتكلم.
ولعل أجمل ما ورد في خطاب هذه الشابة الذكية، غيتا غوبيناث، هو ما جاء في نهاية خطابها حين قالت إن آدم سميث الذي كتب مُؤلَّفَهُ "بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها" عام 1776 (أو قبل مائتين وسبعة وأربعين عاماً) لم يكن الناس واعين آنذاك أنهم على حافة تحول تكنولوجي كبير اسمه الثورة الصناعية الأولى، والتي قامت تطبيقاتها وتجلياتها أساساً على نظريات إسحق نيوتن في الميكانيكا والقوانين الثلاثة التي وضعها.
ولعل الثورة على أفكار آدم سميث بدأت على يد مواطنه الإنجليزي واليهودي الديانة، ديفيد ريكاردو، الذي تحدى بعضاً من فرضيات آدم سميث، وأول هذه الفرضيات هو أن الأجور تصعد وتهبط حسب العرض والطلب في سوق العمل. ولكن ريكاردو أكد أن الرأسماليين يتبعون القانون الحديدي للأجور.
وبمعنى آخر أنه في حالة فائض العرض من العمالة، فإن الرأسماليين يضعون فاتورة أجور ثابتة القيمة، ومهما ارتفع عدد العمال، فإن الفاتورة تبقى ثابتة من أجل زيادة أرباحهم، وبذلك ينخفض معدل الأجر مع الوقت.
ويبين كذلك أن نظرية دَعْه يعمل دعه يمر Laissez Faire, Laissez Passer أصبحت رمزاً لحرية التنقل والعمل، والتي بناها فلسفياً على أفكار زميله الفيلسوف الفرنسي "فولتير"، وعلى فكرة وضعها ابن خلدون وهي الميزة المطلقة التي تطلب من الدول أن تتخصص في الصناعات التي تتوفر مواردها الأساسية فيها.
ولكن ريكاردو قال إن المطلوب من الدول هو التخصص في الصناعات التي تتوفر فيها الميزة النسبية وليست المطلقة.
وأما الاختلاف الثالث فهو في أن الدخل يتأتى عن استخدام عناصر الإنتاج الأربعة الأرض (عائدها الإيجار)، والعمل (الرواتب والأجور)، والمال (الفائدة)، والقدرة التنظيمية وعائدها الربح.
ولكن ريكاردو أضاف مفهوم "الريع" أو المال الذي يعود على الشخص بدون أن يبذل أي جهد مثل الإقطاعي الذي يملك أرضاً فيؤجرها، أو صاحب النفوذ الذي يأخذ ريعاً من الذين يتحكم فيهم، أو الريع الناتج عن ربح رأسمالي لشخص، لأن آخرين خاطروا واستثمروا في أشياء جلبت لهم الربح دون أن يبذلوا جهداً.
هذه الفروقات الثلاث هي التي مهدت لكل من فريدريش انجلز (F.Engels) وكارل ماركس (K.Marx) لكي يخرجا بنظرية "معدل الاستغلال" للعمال، ونظرية أن العمل أساس القيمة، أما التنظيم فهو التطفل على تعب الآخرين وجهدهم.
ولكن جميع هؤلاء الفلاسفة، بدءاً من آدم سميث المؤسس، مروراً بكل من ديفيد ريكاردو، وجون ستيورات ميل، وروبرت مالثوس، صاحب نظرية السكان، وانتهاءً بكارل ماركس وفريدريش انغلز لم يُقَدِّروا التطور التكنولوجي الذي أتى بعدهم حقَّ قدره.
ولذلك كانت معظم قراراتهم غير متكاملة أو منقوصة، أو أن توقعاتهم (كارل ماركس) لم تأت حسب تقديراتهم بحصول الثورات وانتشار الفكر الشيوعي.
ولما حل القرن العشرين بما فيه من تطورات هائلة مثل الطيران، والقنبلة النووية، واللاسلكي، والإلكترونيات. والكيمياء، والبلاستيك، والحواسيب، بدأنا نلحظ أثرها المشوش على النظرية الرأسمالية.
وقد فجع العالم في ثلاثينيات القرن الماضي بانهيار الاقتصاد العالمي دون أن يتمكن النظام الرأسمالي من إحداث العملية التصحيحية المفترضة في التنافسية ومرونة الحركة في السوق الرأسمالية، بل على العكس عانى العالم من تصلب شرايين الاقتصاد الدولي، واستمر الانهيار الاقتصادي (Great Depression) عشر سنوات، ولم تنته تلك الدورة إلا باندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939، ولم تنته عملياً إلا باستخدام الأسلحة الفتاكة.
وقد ظهر أثناء فترة الثلاثينيات من القرن الماضي كتابان، الأول وضعته أستاذة علم الاقتصاد الشهيرة في جامعة كامبريدج جوان روبنسون (J. Robinson)، ومن بعدها بقليل كتاب ظهر في أميركا للاقتصادي إدوارد شاميرلين (E. Chamberlin) والموسوم "نظرية التنافس الاحتكاري" الصادر عام 1933 في السنة نفسها التي نشرت فيها روبنسون كتابها.
وقد اتفق المؤلفان أن اقتصاديات الحجم وعدم حرية الدخول والخروج من الأسواق، كما افترض آدم سميث، هي التي تخلق احتكارات كبرى يكون من مصلحتها أن تقلل إنتاجها دون الحد الذي يمكن أن تصله لو لم يكن السوق محتكراً.
أما عالم الرياضيات جون ناش (John Nash)، وأستاذ الرياضيات الشهير في جامعة برنستون، والذي أُنتج عن حياته فيلم سينمائي بعنوان "A Beautiful Mind"، فقد وضع نظرية "توازن ناش" التي أكد فيها أن المجتمع يحقق أعلى نسبة من الإنتاج حين يأخذ كل واحد من المنتجين بعين الاعتبار ما يفكر فيه الآخرون.
وفي هذه الحالة تنقلب معادلة الصفر إلى معادلة (اكسب/ اكسب). ولكن "ناش" أكد أن فكرة تشابه المعلومات بين البائعين والمشترين ليست صحيحة. فالبائعون يعلمون أكثر عن السلع من المشترين. وهكذا حطم ناش فرضية آدم سميث أن المشتري عاقل ويبحث عن تعظيم فوائده عندما يدخل في صفقة شراء.
ولكن المشوش الأكبر على نظرية آدم سميث وفرضياته كان "جون مينارد كينز" الذي خالف آدم سميث في فرضياته بحرية تحرك الكميات والأسعار في أسواق العمل والمال والسلع حين قال إن هناك "مصيدة للسيولة" في سوق النقد والمال تَحول دون تحرك السيولة داخل الاقتصاد مهما انخفضت أسعار الفوائد، وأن هناك نزعة للأجور في سوق العمل للارتفاع بسبب قوة النقابات العمالية وقدرتها على التفاوض.
وفي سوق السلع فإن ارتفاع الكلف قد لا يسمح بتخفيض الأسعار في حالة تراجع الطلب الفعال عليها. ولذلك، ركز (كينز) على المدى القصير، قائلاً كلمته الشهيرة "أما في المدى الطويل فجميعنا ميتون".
وبعد كل هذا تأتي تلك المشوشات الهائلة في المجال التكنولوجي لتسرِّع في عملية استبدال العمالة البشرية بالروبوتات في كل المجالات. ومن يتحكم في المعلومات المخزنة في الحواسيب سوف يتحكم في نتائج التقصي والبحث.
وإذا تمكّنت الكمبيوترات خارقة السرعة والتعقيد من أن تكون أدق في إجاباتها من الأطباء وفي تنبؤاتها من أعظم المحللين والاقتصاديين، وفي قيامها بعمليات معقدة في مجالات الإنتاج والإبداع والرياضة. واستعاض الناس عن الزواج ومكان العمل والتجمعات باللقاء عبر العالم الافتراضي، فإن هذه العوامل كلها ستكون المشوش الأكبر لأسلوب حياتنا كله.
الناس خائفون من المحاضرات التي يلقيها أذكياء مثل الفتاة غيتا غوبيناث وغيرها، ولكن عندي سؤال تثيره الآية الكريمة "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا".
ففي نظرية الأبعاد نحن نعلم أن البعد الأول هو الطول أو العرض أو الارتفاع، وهو خط. والبعد الثاني هو الطول مضروب بالعرض، وهو المساحة أو المستوى. والبعد الثالث هو الحجم أو الأشكال الفراغية ثلاثية الأبعاد، وهو يمثل ما تراه من أجسام محسوسة، بغض النظر عن كونها نباتاً أم حيواناً أم جماداً، ثم هناك البعد الرابع وهو الزمن، والبعد الخامس هو العلاقة بين الوقت والأجسام، والبعد السادس هو الموجات الإلكترونية.
فما البعد السابع؟ هل هو ظهور الأشياء التي نراها ونعيشها، أو العوالم التي تحيا معنا على الجانب الآخر من عالمنا ولا نشعر بها أو نراها؟ وما البعد الثامن والتاسع والعاشر؟
هل سيصبح الذكاء الاصطناعي مستقبلاً سيدنا، أم سيكون أداتنا التي سنطوعها في فهم أبعاد جديدة للخَلْق الرباني، والتي قد تنقلنا إلى عوالم لا يمكن لنا الآن أن ندركها؟
"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ". ولا يمكن أن يكون الإنسان إلا وسيلة الله لحل ألغاز الكون وأسراره.
والباقي سيبقى أدوات تساعدنا على أن نكون أكثر فهماً وإنتاجية. نحن أنتجنا السيارة لأنها أسرع منا، ونحن اخترعنا الكمبيوتر ليحسب أسرع منا بآلاف المرات، والآليات الثقيلة لتحمل مئات الأضعاف التي نقدر على حملها. فلماذا لا يكون الذكاء الاصطناعي هو وسيلة تنقلنا لفهم العوالم التي ما زلنا نعوم على أطرافها، ولم نرَ منها إلا نقطة من جبل عرمرم.
آدم سميث انتهى، والعالم لم يستعد بعد لنظريات ونماذج اقتصادية جديدة تتداخل فيها كل العلوم والمعارف البشرية.