مؤتمرات المانحين في هيكل منظومة الفساد اللبنانية

15 أكتوبر 2024
ركام انفجار البسطة في بيروت، 11 أكتوبر 2024 (سامي بودرة/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد الحرب الأهلية اللبنانية، سيطرت الميليشيات على السلطة وبدأت في تكوين ثرواتها عبر الفساد والمحاصصات، بدعم ضمني من المجتمع الدولي، واستمرت في تلقي الدعم رغم الفساد المستشري.
- شهد لبنان مؤتمرات دولية مثل باريس 1 و2 وسيدر، لجمع المساعدات المالية، لكن الأزمة الاقتصادية تفاقمت بسبب الفساد وسوء الإدارة، وبلغت ذروتها في 2019.
- استمر المجتمع الدولي في تقديم الدعم المالي للبنان، مثل مؤتمر باريس 3 ومؤتمر 2021، مع استمرار التساؤلات حول نوايا المجتمع الدولي تجاه لبنان.

خرجت الميليشيات اللبنانية من الحرب الأهلية مباشرة إلى استلام السلطة من دون أي محاسبة. بدأت بتكوين ثرواتها عبر الصفقات والمحاصصات والفساد وبمعرفة المجتمع الدولي. وكانت الحروب فرصة للمنظومة لاستعطاء الأموال وإنقاذ نفسها من انهيار نقدي ومالي وشيك، وكان المجتمع الدولي موجوداً دائماً للدعم.

لم تكن المنظومة الحاكمة في لبنان لتستمر أكثر من 34 عاماً بعد انتهاء الحرب الأهلية، من دون الرضا الدولي عنها. وما كان الفساد ليتمدد بلا معرفة الدول الكبرى، وبلا صمتها، وأحياناً تغذيتها له بطرق مختلفة، ضمنها مؤتمرات المانحين ما بعد الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان. وما وقف المنح والقروض بعد سيطرة حزب الله المطبقة على القرار السياسي والأمني في لبنان، إلا تأكيد أن دعم المافيا المليشيوية المسيطرة كان ليستمر لولا توغل الحزب فيها. فالمنظومة لم تكن هي الأزمة، وإنما قيادتها الجديدة. 

تجلى التغيير في نظرة المجتمع الدولي للمنظومة بوضوح في مؤتمر ستوكهولم لإعادة إعمار لبنان. هذا المؤتمر كانت له ظرفية استثنائية. فقد عقد في 31 أغسطس/آب من العام 2006 بعد أيام من انتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان، أو ما يعرف بحرب تموز التي بدأت في 12 يوليو/تموز وانتهت في 14 أغسطس، فيما استمر الحصار البحري والبري والجوي حتى 7 سبتمبر/أيلول من العام ذاته. كما جاء هذا المؤتمر بعد عام واحد من اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وقد اتهمت المحكمة الدولية لاحقاً عناصر من حزب الله بارتكابه. وانعقد هذا المؤتمر بعد أن اقتحم حزب الله البرلمان والحكومة.

أدت حرب تموز التي استمرت 34 يوماً إلى إجمالي خسائر قُدر بأكثر من ثلاثة مليارات دولار، وكانت المنظومة حينها تغوص في ورطة تفاقم المؤشرات المالية والنقدية الخطرة. وانتهى المؤتمر الذي كان يهدف إلى جمع نصف مليار دولار من المساعدات الدولية، بوعود تصل إلى 900 مليون دولار، 87% منها على شكل هبات تتولى الدول الواهبة تقديمها مباشرة أو من خلال مساعدات عينية، و13% على شكل قروض ميسرة.

وقد اعتبر هذا المؤتمر بمثابة دعم لحكومة فؤاد السنيورة لتمويل إعادة الإعمار، في مقابل الأموال التي ضختها إيران مباشرة وعبر حزب الله للقيام بالعملية ذاتها. وبالتالي لم تكن المساعدات المباشرة خوفاً من الفساد أو رفضاً لتمويل المنظومة، بل تفادياً لترسيخ حزب الله سطوته من خلال إخلاء الساحة له لبناء ما تم هدمه في الحرب. 

لم تكن المساعدات المباشرة خوفاً من الفساد أو رفضاً لتمويل المنظومة، بل تفادياً لترسيخ حزب الله سطوته من خلال إخلاء الساحة له لبناء ما تم هدمه في الحرب

وهذا المؤتمر غَرَف استثنائيته من المؤتمرات المانحة الأساسية التي سبقته، وتلك التي لحقته، والتي كانت ترتبط بغالبيتها بالحروب الإسرائيلية الأخرى التي استهدفت لبنان. 

ففي 11 إبريل/نيسان 1996، أطلقت إسرائيل عدوان "عناقيد الغضب"، وخلال 17 يوماً دمرت البنية التحتية، من ضمنها مطار بيروت ومحطات الكهرباء، واستهدفت آلاف المنازل والحقول. وفي ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته، انعقد "مؤتمر أصدقاء لبنان" في واشنطن، وقدم أكثر من  3.2 مليارات دولار يتم منحها ما بين 1997 والعام 2000، لتمويل عشرات المشاريع من قبل الدولة اللبنانية "من دون التزامات أو شروط سياسية" بحسب السنيورة الذي كان حينها وزير الدولة للشؤون المالية.

وكانت الحكومة آنذاك، تتألف من جميع الميليشيات التي عاثت قتلاً وفساداً خلال الحرب الأهلية، وكان رئيس الجمهورية حينها إلياس الهراوي، حليف النظام السوري، فيما كان رئيس الحكومة رفيق الحريري الذي حصل على حصة إدارة الاقتصاد فيما كان الشأن السياسي بيد السوريين. رغم هذه المشهدية، لم تتوان الدول الكبرى التي تشكو فساد المنظومة ذاتها اليوم، عن تقديم المساعدات والدعم. 

وكان لبنان على حافة انهيار نقدي قبل مؤتمر باريس 1 الذي انعقد في 23 فبراير/شباط 2001 في فرنسا تحت عنوان التنمية الاقتصادية في لبنان، وتم فيه جمع نحو 500 مليون يورو من المساعدات الدولية غير المشروطة، وتم إنقاذ المنظومة.

وكان لبنان يسير نحو انهيار مالي ونقدي واسع قبل مؤتمر باريس 2 الذي انعقد في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2002، وحينها تم تقديم 4.2 مليارات يورو، ضمنها 3.1 مليارات يورو مساعدات مالية مباشرة للدولة، وما تبقى تمويلات للمشاريع، بعد ازمة مالية بدأت تتزايد نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية من جهة والفساد وسوء الإدارة المالية من جهة اخرى.

وخلال المؤتمرين، كانت الميليشيات ذاتها ممثلة في المنظومة بوزراء ونواب، باستثناء وجود حزب الله فيها، ولم يكن للدول المانحة مشكلة في تمويل اقتصاد بدأ يشهد ارتفاعاً كبيراً في مديونيته، وبدأت تتكون فيه الأزمة التي انفجرت باللبنانيين في العام 2019، مع امتناع الولايات المتحدة حينها عن دفع أموال إلا بالتزام المنظومة بإصلاحات صندوق النقد الدولي، وهذا ما لم تفعله، ليس كرهاً بالصندوق وسياساته، إنما هرباً من أي اتجاه رقابي، أو تخفيف من تقاسم المغانم والصفقات. 

خلال مؤتمري باريس 1 و2، كانت المليشيات ذاتها ممثلة في المنظومة بوزراء ونواب، باستثناء وجود حزب الله فيها، ولم يكن للدول المانحة مشكلة في تمويل اقتصاد بدأت تتكون فيه الأزمة التي انفجرت باللبنانيين في العام 2019

فاز حزب الله بجميع مقاعد الجنوب اللبناني بالانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران 2005، وفي العام ذاته دخل حزب الله لأول مرة في الحكومة اللبنانية، بعد اغتيال الحريري في 14 فبراير/شباط، وبعده كرت سبحة اغتيال عدد من المسؤولين والإعلاميين والسياسيين. وفي 26 إبريل/ نيسان انسحب الجيش السوري من لبنان، وفي ظل التغييرات الكبرى هذه، تم تعطيل العمل الحكومي في نهاية 2006 بعد خروج حزب الله من الحكومة.

وفي 25 كانون الثاني/يناير 2007 انعقد مؤتمر باريس 3، الذي تعهد بتقديم 7.6 مليارات دولار للبنان. واتهم حزب الله حينها السنيورة بأنه في جيب الغرب، وتم اعتبار هدف مؤتمر باريس إبقاء السنيورة في السلطة، فيما وُضعت شروط لتحرير هذه الأموال، ضمنها شروط اقتصادية ترتبط بالخصخصة وزيادة الضرائب ورفع الدعم.

موقف
التحديثات الحية

هذا المؤتمر محته بعد أشهر ما تشبه الحرب الأهلية الصغيرة التي اندلعت في 7 مايو/أيار 2008، عندما سيطر حزب الله بسلاحه وعناصره والأحزاب المناصرة له على بيروت وبعض مناطق جبل لبنان، إثر صدور قرارين من الحكومة بمصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص بالحزب.

وغابت مؤتمرات الدعم عن لبنان، حتى العام 2018، في ظل انهيار مؤشرات الاقتصاد، حيث انعقد مؤتمر "سيدر" في فرنسا، الذي انتهى بتعهدات بمساعدات تتجاوز 11 مليار دولار، تشمل 10.2 مليارات دولار في شكل قروض و860 مليون دولار في شكل منح. إلا أن هذه الأموال كانت مشروط بسلسلة طويلة من الإصلاحات الاقتصادية ومئات المشاريع الدقيقة وطُلبت مراقبة تنفيذها، وتجاهلتها المنظومة تماماً إلى حين انكشاف الأزمة النقدية الكبرى في العام 2019.

في أغسطس/آب 2021 أعلنت الرئاسة الفرنسية أن مؤتمراً دولياً حول لبنان جمع نحو 370 مليون دولار من المساعدات لتلبية الاحتياجات الإنسانية في البلاد، بعد عام من الانفجار الهائل في مرفأ بيروت. لكن هذه الأموال توجهت إلى المنظمات الدولية والمحلية بدلاً من خزينة الدولة، وسط الضغط على القادة اللبنانيين لتشكيل حكومة جديدة. وحينها تصاعدت تصريحات الدول الكبرى حول فساد المنظومة، وكأنه اكتشاف جديد.

الأموال توجهت بعد انفجار المرفأ إلى المنظمات الدولية والمحلية بدلاً من خزينة الدولة، وحينها تصاعدت تصريحات الدول الكبرى حول فساد المنظومة، وكأنه اكتشاف جديد.

وبدأت حرب أكتوبر 2023، ودخل حزب الله فيها ضمن ما يعرف بجبهة الإسناد، ومن ثم وسعت إسرائيل الحرب في 23 سبتمبر/أيلول الماضي، ماحية بالقصف عشرات القرى والبلدات الجنوبية، وجزءاً كبيراً من ضاحية بيروت الجنوبية. والخسائر التي قدرتها وزارة الاقتصاد بأكثر من عشرة مليارات دولار، لم تنته بعد مع استمرار الحرب.

ومنذ أسبوع، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن مؤتمر دولي في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2024 لدعم لبنان. ستتعهد الدول الكبرى من جديد بضخ مليارات الدولارات في شرايين المنظومة ذاتها. ستشترط الإصلاحات. قد تخيب آمالها وقد لا تخيب، ولكن من المرجح أن المنظومة ذاتها ستستظل من جديد بالانتفاع، وستستمر بعقلية شحذ الأموال بدلاً من تأسيس نظام اقتصادي جديد يقوم على دعم الإنتاج والمنتجين، وعلى وقف الفساد وتوقيف الفاسدين، وعلى وضع أجندة تضمن نهوض الاقتصاد بعيداً عن المحاصصات والمقايضات والصفقات.

هل يريد المجتمع الدولي حقاً دولة قوية اقتصادياً وسياسياً وأمنياً على خاصرة إسرائيل؟ أم أن وجود المنظومة المافيوية المليشيوية حاجة، ليبقى لبنان دائماً ضعيفاً أمام أي حرب، وعلى حافة انهيار اقتصادي يعزز إدمان المسكنات المالية الدولية؟

المساهمون