على الرغم من الإنفاق الأوروبي السخي لدعم اقتصاد المجر والذي سجل نحو 100 مليار يورو على مدى 19 عاماً، يبدو أن هذا الدعم لم ينجح في إحداث تغيير في السياسات الاقتصادية والمالية للدولة بما يتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي بخاصة ما يتعلق بشفافية الإنفاق، بينما يقف الاتحاد الأوروبي في مفترق طرق بين الاستمرار في الدعم لعدم حدوث "بريكست" جديد قادم من الشرق، أو حجب الأموال حفاظاً على موارده التي تقع تحت ضغط تراكمات جائحة كورونا والتضخم وفاتورة تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا.
ومنذ انضمام بودابست إلى النادي الأوروبي في 2004 تزايدت الأعباء المالية الأوروبية لجعل البلد الشرقي، العضو السابق في الكتلة الاقتصادية الشرقية في زمن الاتحاد السوفييتي "كوميكون" على ذات مستوى أوروبا الغربية والشمالية، لكن تقارير اقتصادية غربية عدت بودابست واحدة من أسوأ الدول الأوروبية التي تعيش حالة فساد مستشر ومتزايد.
وتصاعدت في السنوات الأخيرة علاقة متوترة بين الاتحاد الأوروبي والمجر، تحديداً منذ اعتلاء تحالف "فيديز" بزعامة رئيس الوزراء القومي المحافظ فيكتور أوربان السلطة في 2010.
قصة الفساد المجري، منذ هيمنة معسكر قومي محافظ، وأقرب إلى اليمين الشعبوي الأوروبي المشبه أوروبياً بالحالة الترامبية الأميركية (نسبة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب)، أمر تناولته تقارير منظمة الشفافية العالمية بشكل متكرر.
فسيطرة تحالف أوربان على ثلثي مقاعد البرلمان جعلته يمرر القوانين التي يرى أنها في مصلحة بلاده، بينما يتهمه معارضوه في الداخل وفي أوروبا أنه يحول البلد إلى حيث يريد.
ويعتبر رئيس مكتب منظمة الشفافية العالمية في المجر، جوزيف بيتر مارتن، أن الأمور تسوء "منذ تولي تحالف فيديز السلطة"، مشيراً إلى أن ما يجري في المجر "هو في الحقيقة هيمنة الأوليغارشية (أقلية من أصحاب النفوذ والثروات) وتحالف فيديز على كافة المؤسسات الاقتصادية في البلد".
وأكثر ما أقلق أوروبا قدرة الحكم المجري على انتهاج سياسات اقتصادية تمنح العطاءات للطبقة المقربة من نواة فيديز وأوربان، من حيتان رجال الأعمال وأقاربه. وخلال الصراع الأخير بين أوربان والاتحاد الأوروبي حول صرف المال المخصص في خطة الإنعاش الأوروبية بعد جائحة كورونا.
تمرد وابتزاز
منذ أكثر من 6 سنوات تواجه أوروبا الكثير من الانتقادات الداخلية، بسبب "التراخي" في التعامل مع معضلة تمرد دول وسط وشرق أوروبا، المتهمة بالتهرب من الالتزام بمعايير وقيم الاتحاد الأوروبي.
وعلى المستوى الاقتصادي انتهج رئيس الوزراء، أوربان، سياسات يراها الأوروبيون تتجه نحو تشكيل "دولة زبائنية"، يسودها الكثير من "الرشى"، وفقا للأوروبيين، للبقاء في السلطة.
فالكثير من الأموال الأوروبية التي حصلت عليها بودابست أثير حولها شكوك متزايدة عن سوء استخدامها. فعلى سبيل المثال مول تحالف فيديز الحزبي بزعامة أوربان مشاريعه الخاصة بتعزيز الروح القومية المحافظة، ومنها إيمانه، كمسيحي قومي، بأن الإنجاب "حالة ضرورية"، واعداً النساء بمنح مالية، ومساعدات تخص تكلفة تربية الأطفال، من بين أمور أخرى كثيرة متعلقة بالإنفاق على استمرار النخبة الأوليغارشية في السلطة.
كذلك بعد أيام من الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022 وجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام المزيد من تمرد أوربان على قرار معاقبة روسيا اقتصادياً. فالرجل رفض الالتزام، واعتبر أن منع استيراد المجر للطاقة الروسية "سيؤدي إلى كارثة" في بلده. بل ذهب إلى دعم أسعار الوقود والغاز للإبقاء على تأييد الناخبين له.
خلال السنوات القليلة الماضية كان فيكتور أوربان يتملص من الضغوط الأوروبية، والتهديد بمعاقبته اقتصادياً، بالاحتماء خلف حلفاء له في دول أوروبا الشرقية، كبولندا والتشيك وسلوفاكيا، والتي انتهجت تقريباً ذات السياسات القومية المحافظة، وتلاعبت بمبدأ فصل السلطات، واتهمت بـ"تسييس القضاء"، من بين أمور أخرى.
ومع ذلك، وبسبب التغيرات الهائلة التي عاشها الاتحاد الأوروبي خلال حرب أوكرانيا، حيث خفتت في وارسو بشكل خاص نبرة تحدي أوروبا والتحالف مع أوربان. فالبعبع الروسي بالنسبة لتلك الدول الشرقية جعلها أقل تمرداً، وهو ما أتاح لعاصمة القرار الأوروبي، بروكسل، إظهار مخالبها بوجه الرجل، المتهم بأنه يستخدم أساليب ابتزاز.
وقررت أوروبا في خريف العام الماضي تجميد الإفراج عن 27 مليار يورو من حصة البلد، من ضمن الأموال المخصصة أوروبياً للتعافي بعد جائحة كورونا.
وسرعان ما وجد أوربان فرصته للابتزاز مجدداً بعدما احتاجت بروكسل لصوته من أجل تمرير مساعدة أوكرانيا مالياً. وعزز تصرف بودابست سريعا النظرة السيئة لغرب وشمال أوروبا إزاء ما اعتبره البعض خطأ في ضم البلد إلى الاتحاد الأوروبي.
كما ذهب المسؤول في كتلة الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية في البرلمان الأوروبي، نيلز فوغلسانغ، في صحيفة "إنفورماسيون" الدنماركية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلى طرح سؤال في مقال بعنوان: "هل تنتمي المجر فعلاً إلى الاتحاد الأوروبي؟" مشيراً إلى تراخي بروكسل مع بودابست، وبشكل خاص لأسباب يختلط فيها السياسة بالمال.
فإلى جانب أن الهيمنة اليمينية المحافظة على البرلمان نقلت البلد إلى نظام أكثر تسلطاً، بتقييد الكثير من الحريات والمزج بين السلطات، فإن السياسات المالية للرجل تعتبر "ثقباً أسوداً" للأموال الأوروبية.
وفرض الأوروبيون 27 شرطاً على حكومة أوربان تطبيقها قبل الإفراج عن نحو 6 مليارات يورو من خطة الإنعاش المخصصة لبلده، وبرغم أن المبلغ لا يمثل سوى 18% من إجمالي ما حصل تعليه البلاد سنوياً من الاتحاد الأوروبي، إلا أنه مبلغ ضخم مع انحدار وضع بودابست تحت وطأة الفساد وسياسات مالية تقوم في المقام الأول على التحكم بالسلطات، ومن بينها زيادة الولاء بين المتقاعدين والنساء برفع نسبة المساعدات المالية ورواتب المعاشات.
ضربة اقتصادية قاسية للمجر
إيقاف الدفع اعتبره في حينه عالم السياسة المجري والباحث في صندوق مارشال الألماني دانيال هيجيدوس "ضربة قاسية للمجر من الناحية الاقتصادية".
ويكفي على سبيل المثال قراءة الواقع الاقتصادي الذي تعيشه المجر، حتى ما قبل "أزمة الطاقة"، بعد ربيع العام الماضي، لاكتشاف المدى الذي وصلته السياسات الاقتصادية ومركزتها في أيادي حفنة من أصحاب النفوذ السياسي ـ المالي من الأوليغارشية المجرية ونظام الحكم المتحول إلى "الاستبدادي" وفقاً لما يراه مراقبون أوروبيون لتحولات المجر بعيداً عن مبادئ ومعايير عضوية ناديهم، وبينهم البرلماني فوغلسانغ.
فانفجار أسعار البنزين في ظل أزمة الطاقة ليس سوى جزء بسيط من جبل جليد ضخم يثقل كاهل اقتصاد البلد، في سياق لولبية اقتصادية سيئة وكئيبة، وإن كانت ليست بصدد تدمير اقتصاده. فنسبة التضخم تعتبر رابع أعلى مستوى في الاتحاد الأوروبي، بأكثر من 22% للعام الماضي، بينما العام الحالي تسير الأمور في ذات الاتجاه التصاعدي بـ18% حتى الآن، وهي ضعف المتوسط الأوروبي، مع تراجع قيمة العملة الوطنية الـ"فورنت" .
وحتى في صفوف تحالف "فيديز" يبدو القلق واضحاً، إذ عبر مدير البنك المركزي المجري، الموالي لأوربان، جيورجي ماتولسي، عن انتقاده للسياسات المالية في السنوات الماضية، وبأنّ الأزمة "محلية النشوء"، محذراً من تنامي العجز في المدفوعات إلى أرقام هائلة.
بريكست الشرق
ومع تبني الاتحاد الأوروبي ميزانيته بين 2021 وحتى 2027 أدخلت مؤسساته سابقة تتعلق بأدوات ملموسة لاستهداف الفاسدين ومكافحة سوء استخدام الأموال. ومن الواضح أنّ أوروبا التي كانت متراخية، وفقاً للاتهامات السابقة، باتت أكثر حزماً مع أوربان وحلفائه في الداخل. فقد سحب الأوروبيون من يده فرصة الاختباء وراء حكومة حزب "القانون والعدالة" القومي المحافظ في وارسو، وباقي دول أوروبا الشرقية، فور بدء الحرب في أوكرانيا، وبالتالي مواجهة عملية بحجب الأموال ومعاقبة اقتصادية إذا لم تستوفِ المجر مطالب أوروبا.
وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي اضطر أوربان بنفسه إلى رفض الاتهامات الأوروبية له بأنه يمارس الابتزاز، حيث علق على موقعه في تويتر بأنه لا يمارس لا الفيتو ولا الابتزاز. إلى جانب ذلك زاد الرجل خلال الأشهر الماضية من جرعة الخطاب الداخلي القائم على سردية أن بلاده "ضحية" لضغوط بروكسل والعقوبات الأوروبية ضد روسيا.
عملياً تقدم هذه السردية، وصرف الأموال بذريعة الحفاظ على "آليات حماية الأسر المجرية"، ضربة قاسية للاقتصاد، باعتراف مدير البنك المركزي نفسه، والتي جعلت خط المواجهة يتسارع بين أوربان وساسة بروكسل بشكل يطرح إمكانية الاستفتاء على "خروج مجري" (هوكزيت HUXIT) من الاتحاد الأوروبي.
ودعا أوربان في مناسبات عدة خلال السنوات السابقة من صراعه مع بروكسل إلى إعادة تقييم ما إذا كان بلده ينتمي إلى الاتحاد الأوروبي. ورغم أن خروج المجر يعتبر أقل أهمية بكثير من خروج بريطانيا، إلا أن هناك قلقاً أوروبياً على رمزية مغادرة بلد شرقي سابق على مجمل صورته وعلى الرأي العام في ذلك الجزء من القارة التي تكافح من أجل مصالحها عالمياً.
وتظهر بودابست ميلاً أكثر للتوجه شرقاً، خصوصاً أن أوربان تجمعه علاقة طيبة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وخلال الفترة الأخيرة ضخت بكين نحو 10 مليارات دولار على شكل استثمارات وقروض، ودخلت نحو 20 شركة صينية في مشاريع برعاية حكومة أوربان.
وتلك وغيرها كثير من الخطوات تعكس كيف أن الاتجاه العام في البلد أصبح أقل ميلاً للتمسك بعضوية الاتحاد الأوروبي، حيث تنخفض نسبة دعم بقاء البلد إلى نحو 62%، كما أظهر مقياس "يورو بارومتر" في فبراير/ شباط الماضي. وهي النسبة الأقل منذ عام 2007.