لا شك في وجود علاقة طردية وثيقة بين استقرار الأوضاع السياسية واستتباب الأمن في أي بلد وزيادة معدلات التنمية والإنتاج والعكس صحيح في أي بلد كان. وخير مثال على ذلك في منطقتنا العربية هو ليبيا، التي أنهكتها الحرب الأهلية وهجمات تنظيم داعش الإرهابي في العقد الأخير وفي أعقاب ثورة فبراير/شباط 2011 والإطاحة بنظام معمر القذافي.
وقد ألقت تلك الأحداث، مع حرب بالوكالة خاضتها قوى عربية وأوروبية سعياً لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية، ألقت بظلالها الكثيفة على تعطيل المفاصل الاقتصادية للدولة الليبية وعلى رأسها قطاع النفط الذي يسهم بالجانب الأعظم من إيرادات البلاد.
لكن في نهاية النفق المظلم الذي كانت تمر به ليبيا ظهرت طاقة نور تمثلت في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في مارس/آذار الماضي المكلفة بإعادة الاستقرار وتجهيز البلاد للانتخابات في ديسمبر/كانون الأول المقبل.
وفي تحليل للوضع الحالي وآفاق المستقبل القريب لقطاع الطاقة الليبي، ذكرت أليتشي ألونّي، الباحثة الإيطالية المتخصصة في شؤون ليبيا والشرق الأوسط بجامعة دورم البريطانية، أن قطاع الطاقة الليبي قد تضرر بشدة من أجواء عدم الاستقرار السياسي التي شهدتها البلاد منذ اندلاع الثورة في عام 2011، وقد واجه إنتاج النفط والغاز في عام 2020 على وجه الخصوص تراجعاً ملحوظاً بسبب تفاقم حدة الصراع المسلح. وعلى الرغم من ذلك، فقد مرت ليبيا في الفترة من يوليو/تموز 2020 إلى مارس/أذار 2021 من حالة حرب أهلية إلى محاولة جديدة لانتقال سلمي للسلطة.
وأوضحت ألونّي، في دراسة بعنوان "قطاع الطاقة الليبي: بين استئناف الإنتاج والتوترات المستمرة والاتجاهات العالمية" تضمنها الجزء الأول من ملف "أمن الطاقة" ربع السنوي في دورية "مرصد السياسة الدولية" التي يصدرها البرلمان الإيطالي بالتعاون مع وزارة الخارجية والتعاون الدولي، أوضحت أن مؤسسة النفط الليبية أعلنت، عقب اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، عن إعادة فتح حقول النفط وموانئ التصدير في البلاد، ومن ثم استؤنفت أنشطة إنتاج وتصدير النفط بكامل طاقتها.
وتابعت أن إنتاج الزيت الخام في البلاد شهد تراجعاً حاداً في العقد الأخير من 1.65 مليون برميل يومياً في 2010 إلى أقل من 100 ألف برميل يومياً في سبتمبر/أيلول 2020، في حين هبط إنتاج الغاز من 16 مليار متر مكعب في عام 2010 إلى 4.46 مليارات في عام 2020. وقد تعرضت المنشآت النفطية الليبية خلال هذه الفترة لهجمات وقصف ما ألحق بها أضراراً بالغة جراء الصراع بين حكومة الوفاق الوطني في الغرب والقوات التابعة لخليفة حفتر في الشرق. هذا الصراع تسبب في إحداث ركود شبه كامل في الإنتاج خلال العام الماضي.
ومع توقف القتال في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، عاد إنتاج النفط في البلاد لتجاوز عتبة المليون برميل في اليوم اعتباراً من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أتفاق وقف إطلاق النار كان قد سبقه اتفاق آخر يسمح حفتر بموجبه باستئناف إنتاج وتصدير النفط شريطة الاحتفاظ بالعوائد في حساب مؤسسة النفط الليبية في مصرف ليبيا الخارجي وألا تُوجَه مباشرة إلى المصرف المركزي الليبي إلى حين التوصل لاتفاق سياسي بين الأطراف وتعيين حكومة جديدة.
وأشارت إلى أنه بعد تشكيلها في مارس/ أذار الماضي، جددت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة التزامها باستقرار البلاد واستئناف إنتاج النفط الذي وصل معدله في ذلك الشهر ذاته إلى 1.283 مليون برميل يومياً. وقد كان الهدف الأول لهذه الحكومة هو إعادة توحيد المؤسسات السياسية والاقتصادية للبلاد، وتهيئة ليبيا للانتخابات المقررة في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، واستئناف الخدمات الأساسية للمواطنين، وفي مقدمتها وقبل كل شيء الإمداد بالطاقة الكهربائية.
وقالت إنه إذا كان استئناف أنشطة القطاع النفطي يتوقف من ناحية على حفظ السلام والحصول على ميزانية كافية لإصلاح البنى التحتية للطاقة، فإنه يمثل عنصراً بالغ الأهمية لضمان استمرار الإيرادات لتمويل العملية الانتقالية. ونشير هنا إلى أن خطة إنفاق الحكومة تُقدر العوائد السنوية للنفط بـ 89.3 مليار دينار ليبي، ما يوازي 80% من إجمالي الإيرادات، على أساس تصدير 1.1 مليون برميل يومياً بسعر 60 دولاراً للبرميل.
ورأت أن تعيين محمد عون وزيراً للنفط والغاز، بناء على مقترح ورغبة مصطفى صنع الله رئيس مؤسسة النفط الليبية منذ 2014، كان الهدف منه إعادة هذا القطاع لإدارة الحكومة وضمان الدعم اللوجيستي والمالي. وتبرز عملية إعادة فتح وصيانة المنشآت المعطلة عن العمل من قبل جماعات مسلحة أو المغلقة نتيجة لما لحق بها من أضرار جراء غياب عمليات الصيانة أو الحرب الأهلية، تبرز كخطوة أولى ملموسة في هذا الاتجاه.
ومن جانبها، تهدف المؤسسة الليبية للنفط إلى زيادة الإنتاج اليومي إلى 1.45 مليون برميل بنهاية العام الجاري، وإلى 1.6 مليون برميل خلال عامين وإلى 2.1 مليون برميل في غضون 4 أعوام. ومع ذلك، فإن هذه الأهداف سوف تعتمد على قدرة حكومة الوحدة الوطنية على ضمان توفير الاعتمادات المالية الضرورية لمؤسسة النفط والشركات التابعة لها من أجل تحقيق أهداف صيانة البنى التحتية والإنتاج.
وذكرت الباحثة الإيطالية أن حكومة الوحدة الوطنية أقرت في مارس/اذار الماضي موازنة الدولة، التي مازالت تنتظر تصديق مجلس النواب، متضمنة تخصيص 1.3 مليار يورو لمؤسسة النفط، ما يعادل ثلث إجمالي الاعتمادات المالية المخصصة لمشروعات التنمية في عام 2021. هذا التأخير في إقرار البرلمان للموازنة من شأنه التسبب في صعوبات مالية وعملياتية لمؤسسة النفط الليبية، التي استأنفت تحويل إيرادات النفط على حساب وزارة الخزانة لدى مصرف ليبيا المركزي، ما يزيد من اعتمادها على موازنة الحكومة.
وقد أدى الرفض المتكرر لمحافظ المصرف المركزي وتأخر تصديق البرلمان على موازنة 2021 إلى إعادة معدل إنتاج النفط إلى أقل من مليون برميل يومياً في شهر أبريل/نيسان الماضي. ونتيجة لذلك، أعلنت مؤسسة النفط حالة القوة القاهرة على ميناء مرسى الحريجة وأوقفت عمليات التصدير المنطلقة من هناك. وكان للرد السريع من قبل حكومة الوحدة الوطنية وتحويل جزء من الموازنة (184 مليون يورو) لمؤسسة النفط وتكليفها بإنهاء الالتزامات التعاقدية ومواجهة المشكلات الفنية وإطلاق عملية الإنتاج بشكل تدريجي، هذه الإجراءات أدت إلى تجاوز حالة الركود الإنتاجي والتصديري.
وأضافت أن مؤسسة النفط الليبية، التي مازالت تشدد على أهمية موقفها الحيادي على المستوى السياسي، تتوقع إطلاق آبار نفط جديدة في الأشهر المقبلة في منطقتي سرت وغدامس، وتعمل على إعادة تشغيل الحقول المغلقة نتيجة لهجمات داعش في عام 2015.
واستدركت أنه على الرغم من ذلك، فإن أحداث أبريل/نيسان الماضي سلطت الضوء على هشاشة استئناف الإنتاج والفجوة القائمة بين التوقعات والواقع في قطاع النفط الليبي، الذي تصاعدت تبعيته للاستقرار السياسي للبلاد في الأشهر الأخيرة وارتباطه بخيط مزدوج بموازنة الحكومة.
وخلصت ألونّي إلى أن قطاع النفط الليبي سوف يظل خاضعاً لمعدل عال من التقلبات على المدى القصير، ما سيكون له تداعيات سلبية على الإنتاج في 2021.