لا أظن أن شعباً من شعوب الأرض يحب صندوق النقد الدولي، ويثني على سياساته وأجندته، أو صفّق يوماً ما لإملاءاته وابتزازاته وأجندته الخفية وشروطه القاسية التي يفرضها على الشعوب بمساعدة الحكومات التي غالبا ما تكون غير منتخبة.
لكنّ المصريين هم أشد شعوب الأرض كرها وحنقاً على هذه المؤسسة المالية الدولية التي أفقرتهم وأذلّتهم وأربكت معيشتهم وقلبت حياتهم رأساً على عقب.
فقد قذفت سياسات صندوق النقد، الذي تأسس عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بملايين المصريين في أتون الفقر المدقع والبطالة، وقضت على الطبقة الوسطى، وعمّقت الفساد والأزمات الاقتصادية والاجتماعية بل والنفسية.
والأخطر أنها ربطت القرار الاقتصادي المصري بالخارج، فلا يتم اعتماد الموازنة العامة وتحديد الإنفاق الحكومي إلا بعد مرور الأرقام على مقر الصندوق في واشنطن، كل ذلك حدث خلال فترة زمنية قصيرة في عمر الشعوب.
في نوفمبر 2016، أبرمت الحكومة المصرية اتفاقا مع صندوق النقد الدولي تقترض بموجبه 12 مليار دولار على مدة 3 سنوات، مقابل الالتزام بتنفيذ برنامج تقشفي حاد دفع المواطن الفقير ومتوسط الحال كلفته كاملة من جيبه ودخله المحدود الذي لا يكفي تغطية التزاماته الأساسية، من غذاء ومسكن وصحة وتعليم ومواصلات وغيرها.
ساعتها خرجت الحكومة بخطاب يصور الاتفاق مع الصندوق على أنه "نصر مبين" و"شهادة ثقة"، وأنه سينعش الاقتصاد الوطني ويؤدي إلى تدفق مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية على البلاد، وهو ما يوفر فرص عمل بالملايين ويحد من أزمة البطالة، كما سينعش قطاعات السياحة والصادرات وتحويلات المغتربين.
لكن لم تمر ساعات على إبرام الاتفاق حتى فوجئ المصريون بالقرار الصاعقة، وهو تعويم الجنيه المصري، أحد أبرز شروط الحصول على القرض، وهو ما أدى إلى تبخر تحويشة عمرهم وضياع أكثر من 50% من قيمة مدخراتهم بين ليلة وضحاها.
كما صاحب الخطوة توسعاً غير مسبوق في الاقتراض الخارجي، وحسب الأرقام الرسمية فقد قفز الدين الخارجي لمصر بنسبة تصل إلى 138% خلال السنوات السبع الماضية، إذ لم يكن حجم الدين يتجاوز 46 مليار دولار منتصف 2014، ووصل إلى 109.36 مليارات دولار بنهاية شهر سبتمبر 2019، والنتيجة زيادة أعباء الديون المستحقة على البلاد، حيث أن مصر ملتزمة بسداد نحو 18.6 مليار دولار خلال العام الجاري، وهو مجموع الأقساط وأسعار الفائدة التي تتحملها الدولة.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد تم بعد ذلك تنفيذ باقي الالتزامات القاسية الأخرى التي تعهدت بها الحكومة للصندوق، من خفض للدعم الحكومي المقدم للسلع الأساسية، وزيادة الضرائب بمعدلات قياسية، وفرض ضريبة القيمة المضافة لأول مرة، والتي أدت إلى حدوث قفزات في الأسعار، وبيع حصص في أسهم شركات حكومية مثل الشرقية للدخان وغيرها.
وتسببت القرارات الحكومية التي تم تنفيذها بالتنسيق مع صندوق النقد في زيادات قياسية في أسعار السلع بما فيها الغذائية، وزيادات أخرى في أسعار الوقود خاصة البنزين والسولار والغاز، وهو ما أدى إلى رفع أسعار كل شيء، بداية من تذاكر المواصلات العامة وحتى كلفة نقل المحاصيل الزراعية.
وكذا تم رفع فواتير الكهرباء والمياه والنظافة وغيرها من الخدمات العامة، واجراء زيادات في الرسوم الحكومية، بما فيها شهادات الميلاد والوفاة والزواج والطلاق، وصاحب كل ذلك زيادات في تذاكر مترو الأنفاق والقطارات، وهي وسائل مواصلات الطبقات الفقيرة والوسطى.
ومع انتهاء السنوات الثلاث العجاف "2017-2019" تنفّس المصريون الصعداء، ظناً منهم أن علاقة مصر بالصندوق قد انتهت، لكن الجميع فوجئ بإعلان الحكومة المصرية، أمس الأحد، عن تقدّمها بطلب للحصول على قرض جديد من صندوق النقد، وهو ما أعاد إلى ذاكرة المصريين تلك الأيام السوداء التي عاشوها وهم في رعاية برنامج الصندوق.
لم يتم كشف الكثير عن طبيعة القرض الجديد سوى معلومات قليلة منها أنه قرض معبري ولمدة عام، يساعد الحكومة في تجاوز التداعيات الناجمة عن أزمة كورونا، خاصة على قطاع السياحة والتحويلات الخارجية وميزان المدفوعات، ولم تكشف الحكومة عن قيمة القرض، والغرض منه، وما إذا كان لمعالجة الخلل الذي حصل الشهر الماضي في الاحتياطي الأجنبي، أم لتغطية عجز الموازنة العامة.
ولم تجب الحكومة عن السؤال الأهم: هل هناك شروطا والتزامات مقابل الحصول على القرض تشبه تلك التي تم تطبيقها مع القرض السابق، أم أن القرض سيكون شريحة من القروض السريعة التي قرر صندوق النقد منحها للدول المتضررة من فيروس كورونا والبالغ قيمته 50 مليار دولار؟