لا حديث في مصر هذه الأيام سوى عن تراجع سعر الدولار وبشكل مفاجئ، وتحسّن قيمة الجنيه المصري وبلا مقدمات، بل وتحوّل تراجع سعر الدولار إلى لغز كبير يستعصي على فهم كثيرين، بمن فيهم محللون وعاملون في البنوك وسماسرة عملات ومضاربون.
ذلك لأن كل توقعات البنوك ومؤسسات الاستثمار المحلية والعالمية كانت تصب في اتجاه واحد، هو توقعات بارتفاع سعر الدولار في السوق المصرية خلال الأشهر المقبلة وليس تراجعه كما يجرى حالياً.
مبررات ارتفاع الدولار كثيرة ومنطقية، منها مثلا ضخامة المديونيات الخارجية المستحقة على مصر خلال العام المالي الجاري والبالغ قيمتها 14.75 مليار دولار، وانسحاب 11 مليار دولار من الأموال الساخنة من أدوات الدين المصرية خلال تسعة شهور من العام الماضي، إضافة إلى تأخر وصول الشريحة الخامسة من قرض صندوق النقد الدولي البالغ قيمتها ملياري دولار.
كما أن إلغاء آلية تحويلات المستثمرين الأجانب من قبل البنك المركزي، ورفع سعر الدولار الجمركي من قبل وزارة المالية، وفتح باب إستيراد الأرز الصيني، هي قرارات كان من شأنها زيادة سعر الدولار، وليس العكس كما حدث.
وزاد من تكهنات ارتفاع الدولار تصريحات محافظ البنك المركزي طارق عامر الأسبوع الماضي لوكالة بلومبيرغ الأميركية والتي توقّع فيها حدوث تذبذب في سوق الصرف خلال الفترة المقبلة، وهو تصريح كان مثيراً وملفتاً للأنظار من حيث المضمون والتوقيت.
لكن خلال اليومين الماضيين فقد الدولار أكثر من 20 قرشا وبما يعادل 2% من قيمته، ولم يكشف البنك المركزي عن سبب التراجع المفاجئ، ومن هنا جرى طرح هذا السؤال: ما الجديد في الاقتصاد المصري حتى تتحسن قيمة العملة المحلية بهذا الشكل المفاجئ؟
في ظل غياب المعلومات انطلقت التفسيرات والتأويلات، ما بين قائل إن ما حدث من تراجع في سعر الدولار هو تمهيد لخفض جديد في قيمة الجنيه المصري، وذلك على غرار ما حدث قبيل قرار تحرير سوق الصرف وتعويم العملة المحلية في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
وما بين قائل بأن التراجع جاء بسبب زيادة التدفقات الدولارية الكبيرة على مصر خلال الفترة الأخيرة، خاصة التدفقات الأجنبية الموجهة لسوق أدوات الدين وفي مقدمتها أذون الخزانة، أو بسبب قرب وصول شريحة صندوق النقد الخامسة وحصيلة السندات الدولية التي ستطرحها الحكومة في الأيام المقبلة وتتراوح قيمتها ما بين ثلاثة وسبعة مليارات دولار.
بل إن بعضهم ربط بين تراجع قيمة الدولار في السوق المصرية وحملة #خليها_تصدي التي انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية وتستهدف مقاطعة شراء السيارات المستوردة، خاصة الأوروبية، ومعاقبة التجار والوكلاء المحتكرين.
لكن التفسير الأقرب للمنطق هو أن البنك المركزي يحاول امتصاص الصدمة التي تلت تصريحات طارق عامر الأخيرة وأثارت القلق في سوق الصرف ودفعت سماسرة السوق السوداء للتأهب للمضاربة في العملة المحلية مجدداً، كما دفعت هذه التصريحات المثيرة المدخرين والمضاربين لحيازة المزيد من الدولار وتخزينه وحبسه عن السوق، بل إن بعض المصريين العاملين في الخارج توقف عن إرسال النقد الأجنبي لذويهم داخل مصر ترقباً لارتفاع سعر الدولار.
ومن هنا أراد البنك المركزي أن يبعث برسالة إلى الأسواق المالية عبر خفض سعر الدولار، رسالة مفادها أن تصريحات المحافظ التي قال فيها إن العملة ستشهد مزيداً من التذبذب كانت تعني تراجع سعر الدولار وليس ارتفاعه كما توقع كثيرون، وأن من يراهن على ارتفاع العملة الأميركية سيتعرض للخسائر، وأنه لا عودة للوراء، وأنه سيتم وأد أية محاولات لعودة السوق السوداء التي اختفت منذ نهاية العام 2016.
وعبر هذه الرسالة سعى البنك المركزي إلى هز ثقة المدخرين في الدولار، ومحاولة إبعادهم عن اكتنازه مرة أخرى عبر خفض قيمته مقابل الجنيه.
وفي الوقت نفسه بعث المركزي برسالة عملية إلى صندوق النقد الدولي مفادها بأن سوق الصرف الأجنبي في مصر مرن ويخضع للعرض والطلب، وأن سعر الدولار مقابل الجنيه ليس ثابتاً كما يقول مسؤولو الصندوق لأعضاء الحكومة المصرية في الغرف المغلقة.
الخلاصة أن تراجع سعر الدولار خلال أمس الأحد واليوم الأثنين وتحسن قيمة الجنيه المصري هي "حركة مثيرة للقلق وموجهة، ولا علاقة لها بالعرض والطلب" كما قال مسؤول في أحد البنوك المصرية الخاصة لوكالة "رويترز" اليوم الأثنين، وأنها بمثابة لعب بالنار وإثارة القلق في سوق صرف مستقر منذ أكثر من عامين، وإعادة أجواء ما قبل تعويم الجنيه في نهاية العام 2016، وهذا خطر يجب أن يدركه الجميع، لأن الحفاظ على سوق صرف مستقر له نتائج ايجابية كثيرة على الاقتصاد أبرزها استقرار الأسعار، وجذب مزيد من الاستثمارات الخارجية.