لبنان يحتاج إلى إجراءات اقتصاديّة طارئة

لبنان يحتاج إلى إجراءات اقتصاديّة طارئة

07 نوفمبر 2023
احتجاجات ضد المصارف في بيروت (getty)
+ الخط -

منذ بداية حرب غزّة الراهنة، لم تغب جبهة جنوب لبنان عن المشهد، من خلال المناوشات العسكريّة اليوميّة، التي أخذت رقعتها بالاتساع تدريجيًا على جانبي الحدود. وحتّى الآن، ما زالت المواجهات تجري تحت سقف مضبوط من قبل الطرفين، أي من دون تصاعد الاشتباكات لتصل إلى حد الحرب الشاملة.

لكن ومع ذلك، ما زالت التحليلات السياسيّة تتعامل مع التصعيد العسكري واسع النطاق في لبنان كاحتمال كبير قائم، خصوصًا إذا شهدت غزّة المزيد من التقدّم في الغزو البرّي الإسرائيلي.

هذا الواقع، سرعان ما طرح أسئلة جديّة حول التحدّيات التي يمكن أن تواجه لبنان على المستويات الماليّة والاقتصاديّة والنقديّة، في حال تحقق سيناريوهات الحرب الشاملة مع إسرائيل، كون لبنان يعاني أساسًا من تبعات الأزمة الاقتصاديّة القائمة منذ أواخر العام 2019.

وغنيٌ عن القول إنّ طرح هذه الأسئلة يستهدف أولًا استباق هذه المخاطر المحتملة والتعامل معها وتقليص أثرها، وليس إضعاف معنويّات اللبنانيين في حال الوصول إلى هذه المرحلة. فالتعامل مع هذا النوع من الثغرات الاقتصاديّة، كجزء من اعتبارات الجبهة الداخليّة، هو ما يحدد قدرة المجتمعات على تحمّل ضغوط الحرب والمواجهة.

من المهم الإشارة أوّلًا إلى أنّ الحكومة واللجان النيابيّة ناقشتا بالفعل ما تم اعتباره "خطّة طوارئ" للتعامل مع السيناريوهات المحتملة لأي عدوان إسرائيلي. إلا أنّ إجراءات هذه الخطّة انحصرت في الجانب العمليّاتي واللوجستي، أي الجانب المرتبط بإجراءات الإجلاء والإسعاف والحماية وتأمين الاتصالات، والإمدادات، وإدارة المعلومات وغيرها.

لكنّ هذه الخطّة افتقرت للأسف لجوانب لا تقل أهميّة، وتحديدًا تلك التي يفترض أن تتعامل مع الأوضاع الماليّة والنقديّة خلال فترات العدوان المحتمل، وهو ما مثّل ثغرة لم يتم تداركها حتّى اللحظة.

بل وكان من الملفت خلال النقاشات التي جرت في اللجان النيابيّة عدم امتلاك الحكومة أجوبة واقعيّة للتساؤلات التي تم طرحها، بخصوص كيفيّة تمويل إجراءات الخطّة العملياتيّة واللوجستيّة نفسها. وهذا ما دفع بعض النوّاب إلى التشكيك بجدوى التخطيط لهذه الإجراءات على الورق، من دون احتساب كلفتها أوّلا، ومن ثم تحديد مصادر التمويل المحتملة ثانيًا. وذلك بالضبط ما يشير إلى عبثيّة التخطيط للإجراءات الطارئة ضمن خطّة كهذه، من دون التطرّق للمسائل ذات الطابع المالي.

عند هذه النقطة يتضح أول التحديات الاقتصاديّة المرتبطة باحتمالات الحرب، أي مشكلة فقدان التوازن في الماليّة العامّة. فإذا كانت الاعتمادات الماليّة المتوفّرة حاليّا لا تسمح بتشغيل الإدارات الرسميّة أو تمويل حاجات البنية التحتيّة في فترات السلم، فمن البديهي السؤال عن كيفيّة تأمين الاعتمادات للنفقات الإضافيّة والاستثنائيّة التي ستطرأ خلال الحرب، وبالتحديد تلك التي تُعنى بالعمل الإغاثي والطبّي والمساعدات الاجتماعيّة التي يفترض أن تتأمّن للنازحين.

المشكلة هنا لا ترتبط فقط بشح الموارد الماليّة المتاحة أصلًا لدى الدولة اللبنانيّة، بل ترتبط أيضًا بعدم قدرة الدولة على الاقتراض من النظام المالي المحلّي، لتغطية هذه الحاجات الاستثنائيّة.

فالتعثّر الذي أصاب المصارف اللبنانيّة منذ تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، وما زال قائمًا حتّى اليوم، بات يمنع القطاع المصرفي اللبناني من أداء دوره التقليدي والتاريخي في إقراض الدولة. أمّا تراجع حجم الاحتياطات المتوفّرة لدى المصرف المركزي بالعملة الصعبة، فألزم المجلس المركزي في المصرف بالامتناع منذ شهر آب/أغسطس الماضي عن إقراض الدولة.

ومن المعلوم أيضًا أنّ الدولة اللبنانيّة باتت عاجزة عن الاقتراض من أسواق المال الدوليّة، بفعل امتناعها عن سداد سندات اليوروبوند الخاصّة بها منذ شهر آذار/مارس 2020، من دون أن تتفاوض مع الدائنين لإعادة هيكلة هذه الديون حتّى اللحظة. ولهذا السبب، لم تعد الدولة تملك الكثير من الخيارات للاقتراض، باستثناء اللجوء إلى بعض برامج المؤسسات الدوليّة، التي لا تؤمّن التمويل إلّا لغايات محددة ومحدودة جرى التفاوض عليها مسبقًا.

مشكلة تعثّر القطاع المالي، لن تترك تداعياتها على الدولة اللبنانيّة فقط، بل على المجتمع أيضًا. فخلال حرب تمّوز/يوليو 2006، ورغم كل الدمار الذي أصاب البنية التحتيّة في الجنوب وضاحية بيروت الجنوبيّة، ظلّت المصارف اللبنانيّة في العاصمة وسائر المناطق تقوم بعمليّاتها بشكل روتيني. وهذا ما سمح للبنانيين، وخصوصًا النازحين من مناطق التصعيد، بالاستفادة من مدخراتهم خلال فترة النزوح، في ظل توقّف أعمالهم وانحسار مصادر دخلهم خلال المعارك.

لكن اليوم، من المعروف أنّ شرائح واسعة من الطبقة الوسطى اللبنانيّة خسرت مدخراتها التاريخيّة بعد التعثّر الذي أصاب القطاع المصرفي منذ أواخر العام 2019، ولم يعد بالإمكان الاستفادة من الودائع القديمة إلّا بموجب دفعات شهريّة محدودة جدًا.

وحتّى إذا أرادت المصارف اللبنانيّة أو المصرف المركزي تسهيل أمور اللبنانيين، لا يسمح حجم السيولة المتوفّرة بزيادة معتبرة في سقوف السحوبات، التي لا يتخطى حجمها الـ400 دولار حاليًا، ولأنواع محددة من الحسابات المصرفيّة.

هكذا، وبفعل محدوديّة قدرة الطبقة الوسطى على الاستفادة من مدخراتها، ستجد الدولة اللبنانيّة نفسها أمام أعداد أكبر من النازحين الذين يحتاجون المساعدات الطارئة، مقارنة بحرب يوليو/تمّوز 2006.

وأبرز حاجات هؤلاء النازحين ستكون بطبيعة الحال الإيواء، خصوصًا بعدما ارتفعت كلفة الإيجارات إلى مستويات قياسيّة خلال الأسابيع الماضية، في المناطق البعيدة عن التصعيد العسكري المحتمل، استباقًا لارتفاع الطلب على المساكن في هذه المناطق في حال حصول تصعيد عسكري إضافي.

في الوقت نفسه، ستجد الدولة اللبنانيّة نفسها أمام إشكالات أخرى لا تقل أهميّة، ومنها احتمال الضغط على سعر صرف الليرة، إذا قررت المصارف المراسلة الأميركيّة التشدّد في علاقتها مع المصرف المركزي، لأسباب سياسيّة.

كما ستواجه البلاد احتمالات عرقلة سلاسل توريد المواد الغذائيّة والطبيّة، بفعل إمكانيّة تلكّؤ شركات التأمين في تغطية الشحن البحري، أو زيادة رسوم هذه التغطية، إذا اندلعت مواجهة واسعة النطاق.

مع الإشارة إلى أنّ بعض شركات التأمين العالميّة بدأت أساسًا بزيادة هذه الرسوم، بالنسبة لعمليّات الشحن المتجهة إلى لبنان، بسبب التوتّرات الحاصلة.

لكل هذه الأسباب، تحتاج الدولة اللبنانيّة إلى اتخاذ بعض الإجراءات العاجلة، وفي طليعتها وضع سيناريوهات لتغيير وجهة استعمال بعض الاعتمادات الماليّة المتوفّرة، رغم شحّها، في حال حصول تصعيد عسكري كبير، وذلك في ضوء الأولويّات التي سيفرضها هذا التصعيد.

وستحتاج الحكومة اللبنانيّة طبعًا لتمرير هذه السيناريوهات بشكل طارئ في البرلمان، لتمتلك الصلاحيّة القانونيّة اللازمة لتغيير وجهة إنفاق الأموال المتوفّرة بشكل تلقائي عند الحاجة.

بشكل مواز، بإمكان الوزارات اللبنانيّة التفاوض مع المؤسسات الدوليّة المختلفة التي تتعاون حاليًا مع الدولة، للاتفاق على برامج هبات وقروض يمكن تخصيصها لعمليّات الإغاثة منذ الآن، مع إمكانيّة أن تكون هذه الهبات والقروض مشروطة باحتمالات توسّع المعارك العسكريّة.

ومن المهم التنويه بأنّ الدولة اللبنانيّة تمتلك بالفعل العديد من برامج القروض الدوليّة غير المستخدمة، والتي يمكن تغيير وجهة استعمالها على نحو طارئ، في حال تحقق سيناريوهات التصعيد العسكري.

في خلاصة الأمر، تحتاج الدولة اللبنانيّة إلى وضع خطّة طوارئ اقتصاديّة عاجلة، بموازاة خطّة الطوارئ التي عملت عليها للعمليّات اللوجستيّة، لضمان حصانة المجتمع اللبناني في حال حصول تصعيد عسكري كبير.

ومن المفترض أن تتمتّع هذه الخطّة بالمرونة اللازمة، لتتمكّن من التكيّف مع شكل أو طبيعة التصعيد العسكري إذا حصل، ولتتواءم مع طبيعة الحاجات التي ستفرض نفسها بحسب تطوّر الأوضاع العسكريّة.

أمّا إذا غابت هذه الخطّة الاقتصاديّة، فمن الصعب توقّع نجاح الخطة اللوجستيّة التي تم وضعها بالفعل، بسبب التحديات الماليّة التي ستواجه الدولة اللبنانيّة.

المساهمون