بات من الأكيد أنّ استكمال مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي سيكون نقطة انطلاق حكومة نجيب ميقاتي الجديدة في مسار التعامل مع الانهيار المالي، بدلالة تركيز جميع تصريحات وزراء الحكومة على أهميّة هذه المفاوضات، وضرورة التوجّه إليها بلغة موحّدة يتبنّاها الوفد اللبناني المفاوض.
ولا يحتاج المرء إلى كثير من الشرح ليفهم أهميّة الانخراط في برنامج قرض مع الصندوق بالنسبة إلى الدولة اللبنانيّة، خصوصاً أن حاجة لبنان لهذا البرنامج لا تقتصر على قيمة السيولة التي سيحصل عليها من القرض فقط.
فبالنسبة للدائنين الأجانب الذين يُفترض أن يوافقوا على أي خطّة مستقبليّة لإعادة هيكلة سندات اليوروبوند، سيمثّل برنامج القرض ورقابة الصندوق المشددة ضمانة لامتثال لبنان للإصلاحات المطلوبة في مرحلة التصحيح المالي، وبالتالي ضمانة لقدرة الدولة على سداد التزاماتها للدائنين بعد إعادة الهيكلة.
أما بالنسبة لسائر الدول والجهات الدوليّة المعنيّة بالملف اللبناني، والتي يمكن أن تقدّم قروضاً أو هبات وازنة، أو تنخرط في استثمارات معيّنة في المرحلة المقبلة، فكان من الواضح إلحاح الغالبيّة الساحقة من هذه الجهات على استكمال المفاوضات مع الصندوق قبل المضي قدماً في أي برامج دعم كبيرة مع الدولة اللبنانيّة.
فبالنسبة لهذه الجهات، لم تعد الدولة اللبنانيّة تملك المصداقيّة التي تشير إلى قدرتها على إدارة مرحلة التصحيح المالي وحدها، وهو ما يدفع جميع هذه الجهات إلى الشك بقدرة لبنان على الإيفاء بالتزاماته من دون رقابة الصندوق الصارمة.
وعلى أي حال، يمكن لأي مراقب أن يلاحظ انسجام مواقف الكثير من الجهات الدوليّة كفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، مع الشروط التي طرحها صندوق النقد منذ البداية للموافقة على برنامج القرض للبنان، والتي تركّزت على ضرورة تحديد خسائر النظام المالي ومعالجتها بشكل حاسم.
كما شملت هذه الشروط مسائل أخرى كالتدقيق الشامل في ميزانيات المصرف المركزي، وإقرار التشريعات التي تقونن الضوابط المفروضة على سيولة المصارف بعيداً عن أي استنسابيّة، بالإضافة إلى إصلاحات أخرى ترتبط بخطة الكهرباء واستقلاليّة النظام القضائي وغيرها.
ولهذا السبب بالتحديد، بدا واضحاً أن الأقطاب الذين أعدوا التشكيلة الحكوميّة حرصوا على تطعيمها ببعض الوجوه القادرة على تسهيل المفاوضات مع الصندوق في المرحلة المقبلة، كنائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، خبير السياسات الماليّة الذي عمل سابقاً مديراً في صندوق النقد الدولي، وشغل منصب كبير الاقتصاديين في العديد من المؤسسات الاقتصاديّة.
بدا واضحاً أن الأقطاب الذين أعدوا التشكيلة الحكوميّة حرصوا على تطعيمها ببعض الوجوه القادرة على تسهيل المفاوضات مع الصندوق في المرحلة المقبلة
وجود الشامي في هذا المنصب، الذي يضعه في واجهة الحكومة من دون أن يعطيه الكثير من الصلاحيّات في الملف المالي تحديداً، لم يكن بالإمكان تفسيره إلا كرسالة حسن نيّة للصندوق قبل استئناف مسار التفاوض.
كل ما سبق، يؤكّد حاجة البلاد الملحّة للتفاوض مع الصندوق في المرحلة الراهنة، لكنّه لا يحسم بالضرورة النقاش حول وجهة هذه المفاوضات، أي طبيعة المعالجات التي ستدفع باتجاهها الدولة اللبنانيّة، ونوعيّة الخطط التي ستحاول التفاهم عليها مع الصندوق.
فهذه الخطط والمعالجات، هي ما سيحسم في المحصّلة آليّة توزيع خسائر الأزمة، في كل ما يتصل بالفجوات الموجودة في النظام المصرفي، وكلفة إعادة هيكلة الدين العام.
وإذا كانت أولويّات الصندوق معروفة منذ البداية، فالبيان الوزاري لم يحمل في طيّاته ما يوضح وجهة سياسات الحكومة اللبنانيّة من هذه الناحية.
فخلال السنة الماضية، حملت حكومة حسّان دياب خطّتها الماليّة الخاصّة إلى طاولة المفاوضات مع الصندوق. لكنّ مسار التفاوض تعثّر بأسره لاحقاً بسبب رفض كل من جمعيّة المصارف والمصرف المركزي المقاربات التي حملتها تلك الخطّة، وتحديداً في ما يتصل بحجم الخسائر الذي قدّرته الخّطة، وبتحميلها جزءا وازنا من خسائر لرساميل المصارف والمصرف المركزي.
وفي المحصّلة، انقلب المجلس النيابي على خطّة الحكومة وأسقطها، ما أدّى إلى امتناع وفد الصندوق عن استكمال المفاوضات في ظل عدم وجود لغة لبنانيّة موحّدة في مخاطبة الصندوق والتفاوض معها.
اليوم، يبدو أن هناك فرصة لتوحيد مقاربات الحكومة والمصرف المركزي، بفضل العلاقة الجيّدة ما بين رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة.
أما وزير الماليّة، الذي يفترض أن يكون الوزير الوصي على ملف الخطة الماليّة وكل ما يتفرّع عنه، فليس سوى مدير العمليّات الماليّة في المصرف المركزي، الذي تعاون طوال السنوات الماضية مع حاكم المصرف المركزي في كل ما يرتبط بالمعالجات التي كان يجريها المصرف قبيل وبعد حصول الأزمة.
إذا كانت أولويّات الصندوق معروفة منذ البداية، فالبيان الوزاري لم يحمل في طيّاته ما يوضح وجهة سياسات الحكومة اللبنانيّة
لكل هذه الأسباب، من المفترض أن تكون الحكومة اليوم أكثر انسجاماً مع أولويات المصرف المركزي، الذي يملك أساساً مساراته الخاصّة لإعادة رسملة القطاع المصرفي وتكوين المؤونات المطلوبة للتعامل مع الخسائر، هو ما يوحي بأن عمليّة توحيد مقاربات الدولة اللبنانيّة في مفاوضاتها مع الصندوق ستكون مسألة أسهل، مقارنة بمرحلة حكومة حسّان دياب السابقة.
ولعلّ هذه الحقيقة بالتحديد ما يفسّر تشديد الكثير من تصريحات أقطاب الحكومة على مسألة توحيد تلك المقاربات، والتوجّه إلى المفاوضات بلغة لبنان موحّدة.
لكنّ تقارب أولويات الحكومة والمصرف المركزي يثير في المقابل هواجس كبيرة، وتحديداً من جهة نوعيّة الحلول التي ستنتج عن هذا التقارب.
ففي مرحلة حكومة حسّان دياب، ركّزت الخطّة الماليّة التي عملت عليها شركة لازارد، استشاري الحكومة المالي في ذلك الوقت، على المعالجات التي من شأنها التخلّص من الخسائر المتراكمة في النظام المصرفي بشكل جذري، عبر تحميلها للرساميل المصرفيّة بالدرجة الأولى.
فشركة لازارد تبنّت في تلك المرحلة النظريّات الأكثر رواجاً في الأسواق الماليّة العالميّة اليوم، والتي تشدد على عدم جواز تحميل خسائر قطاع مصرفي متعثّر للأموال العامّة، خصوصاً إذا اتصل جزء كبير من هذه الخسائر بقرارات متعمّدة حمّلت أصحاب الودائع مخاطر كبيرة.
أما اليوم، فما رشح عن التحضيرات للمفاوضات مع صندوق النقد يدل على أن الحكومة ستتبنّى في الكثير من المقاربات الجديدة عمليّات الشراكة مع القطاع الخاص، أو عمليّات الخصخصة الصريحة، لاستقدام العملة الصعبة من الخارج والتعامل مع خسائر المرحلة الماضية.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن المصرف المركزي يعمل على بعض المعالجات التي يتم التحضير لها للتخلّص من الفارق الكبير بين التزامات القطاع المصرفي للمودعين بالعملة الصعبة، وما تبقّى من الودائع.
وهذه المعالجات ستقوم بشكل أساسي على تحويل جزء من الودائع بالعملات الأجنبيّة إلى سندات طويلة الأجل بالليرة اللبنانيّة، وفق أسعار صرف تقل عن سعر صرف الدولار الفعلي في السوق.
وبذلك، سيكون المصرف قد تخلّص من فجوة الخسائر بالعملات الأجنبيّة كما يطلب صندوق النقد، لكن دون تحميل هذه الخسائر للرساميل المصرفيّة.
لذلك، يبدو أن جميع المقيمين في لبنان سيكونون على موعد مع تطوّرات حسّاسة خلال الفترة المقبلة. فتسهيل مسار التفاوض مع صندوق النقد بات من المسلّمات اليوم، لكن السؤال الأساسي سيكون: لمصلحة من سنفاوض؟