بدأ أعضاء وفد المحققين الأوروبيين يصلون تباعاً إلى لبنان للتحقيق في قضايا الفساد المالي والمصرفي تحت إشراف القضاء اللبناني المُتهم بعرقلة مسار التحقيقات محلياً، والمشكوك في مدى جدية تعاونه مع الأوروبيين وتسهيل مهمتهم في بيروت.
وعلى وقع الهجوم السياسي الاستباقي ضد زيارة الوفد الأوروبي بذرائع التعدي على السيادة الوطنية والقضائية، لم تمرّ مهمة الوفد الألماني في يومه الأول (الأربعاء) على خير، إذ اصطدمت بعض طلباته بالرفض من جانب المحامي العام الاستئنافي في بيروت القاضي رجا حاموش، المُكلَّف بإطلاع المحققين على ملف التحقيق مع حاكم (محافظ) البنك المركزي رياض سلامة وشخصيات مالية مصرفية، وتسهيل مهمتهم.
واستقبل حاموش الوفد الألماني في مكتبه في قصر العدل في بيروت، أول من أمس، وأتاح له الاطلاع على جوانب من الملف، لكنه رفض في المقابل طلب تصويره كاملاً، بذريعة أن ذلك يخالف معاهدة مكافحة الفساد الدولية، وقد لاقت خطوته تأييد وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري الخوري، باعتبار أنه التزم تطبيق القانون، وقد أبلغ الجانب الألماني ذلك.
ومن المرتقب أن تبدأ جلسات الاستجواب من جانب وفد المحققين من دول ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ الاثنين المقبل، بعد تأخر في التحضيرات اللوجستية، وتضمّ اللائحة مسؤولين في عددٍ من كبرى المصارف اللبنانية، منها عودة، سرادار، الموارد، البحر المتوسط، الاعتماد اللبناني، لبنان والمهجر، ونواب حاكم البنك المركزي، حاليين وسابقين، بصفة شهودٍ، على أن يتم الاستماع إلى رجل الأعمال نبيل عون بصفة مشتبه به، وهو ناشطٌ في مجال الصناديق الاستثمارية والبورصة.
وكشف "المرصد الأوروبي لدعم النزاهة في لبنان" أن النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات تلقى طلباً أوروبياً باستجواب عدد من المسؤولين عن التدقيق في حسابات مصرف لبنان ومنهم وليد نقور، رمزي عكاوي، وندى معلوف.
في حين تبرز أسماء كبار الشخصيات المصرفية المالية والسياسية في لبنان، ضمن المطلوب الاستماع إليهم، تتقدمهم وزيرة الداخلية السابقة ريا الحسن، بصفتها رئيسة مجلس إدارة بنك البحر المتوسط، والوزير السابق مروان خير الدين، المدير العام لبنك الموارد.
كما كشف المرصد أن القاضية الفرنسية أود بوروسي التي تحقق في قضية اختلاس وغسل وتبييض الأموال المتهم بها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تصل لبنان الاثنين المقبل، وهي الزيارة الثانية لها في إطار التحقيق الذي تقوم به في الملف، ومن المعروف أن القاضية الفرنسية ارتبط اسمها بالحكم على الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي.
وأكد النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات في تصريحات صحافية أن حاكم مصرف لبنان ليس ضمن اللائحة الاسمية للوفد الأوروبي على صعيد المرحلة الراهنة، بيد أنه أبقى الباب مفتوحاً على إمكانية طلب الوفد لاحقاً التحقيق معه، سيما من الجانب الألماني.
بداية، يقول منسّق اللجنة القانونية في "المرصد الشعبي" المحامي جاد طعمة لـ"العربي الجديد"، إن "عمل الوفد القضائي الأوروبي ينطلق من مضمون اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي صادق عليها لبنان، والشكاوى التي قدّمتها منظمات تعنى بمكافحة الفساد وتبييض الأموال ومودعين أمام النيابات العامة في أوروبا بوجه مصارف لبنانية وشخصيات مصرفية وأقاربهم ومستخدميهم استندت في ربط الاختصاص القضائي الدولي إلى الاتفاقية المذكورة، والتحرك القضائي الأوروبي بدأته النيابات العامة الفرنسية، الألمانية، وفي لوكسمبورغ منذ العام 2021".
ويلفت طعمة إلى أن "الشخصيات التي سيُصار إلى الاستماع إليها في المرحلة الأولى ويصل عددها حسب ما هو متداول إلى 15 شخصاً سيتم ضبط إفادتهم ولم يتم الإعلان عن وجود أي ادعاء عليها حتى الساعة، علماً أن الملف الأكثر تأكيداً ووضوحاً هو الذي فتحته النيابة العامة الفرنسية ويرتبط التحقيق فيه في مصدر ثروة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه ومساعدته التي تصل إلى حوالي 350 مليون دولار".
ويشير طعمة إلى أن "أي وفد قضائي أوروبي لا يمكنه أن يباشر تحقيقاته في لبنان دون أن يأخذ إذن السلطات القضائية اللبنانية مسبقاً وذلك احتراماً لمبدأ السيادة المصانة للدول في أي اتفاقية دولية"، لافتاً إلى أن "حضور الوفد القضائي الأوروبي يثبت أن الأمر يرتبط بعدم كفاية إرسال طلبات، وأن هناك ما يستدعي انتقال قضاة أوروبيين إلى لبنان ما يدلل على جدية متابعة الشكاوى الملاحقة في الخارج، وأنه لولا الوهن في ملاحقة الفساد من قبل القضاء اللبناني لما كنا اليوم أمام مشهد غير مريح على مستوى الشعور الوطني، فالقضاء اللبناني المعني بملاحقة الفاسدين في لبنان يظهر بحالة عجز في هذه المشهدية".
ويرى طعمة أن بوابة دخول الوفد القضائي الأوروبي كان ترخيصا من مدعي عام التمييز لأنه صاحب الاختصاص والصلاحية للتعاون معهم والموافقة على طلباتهم، وهو لم يقفل الباب على مهمة الوفد القضائي الأوروبي كي لا يزيد شبهة الإهمال على القضاء اللبناني، من هنا جرى منح الوفد التسهيلات والإذن اللازم.
ويضيف: كما تم تسهيل مهمة تبليغ الأشخاص المطلوب استجوابهم مواعيد جلسات الاستماع، لافتاً إلى أن الوفد الأوروبي بمجرد أن تصبح لديه معطيات إضافية حول ملف الشكاوى التي يحقق بها سيكون ملزماً مرة من جديد للتنسيق مع النيابة العامة التمييزية في لبنان الذي يمكنها أن تستند إلى الصلاحية الشخصية لتولي ملاحقة أي مواطن لبناني مشتبه به، وهنا ستكون الخشية من أن يقفل الباب على جدية الوصول إلى أي نتيجة.
ويتأسف طعمة لأنه بينما كان واجباً على القضاء اللبناني أن يحقق في تهريب الأموال إلى الخارج للمطالبة جدياً باستردادها أو حجزها إن لزم الأمر، ها نحن نعاين حجز هذه الأموال من قبل القضاء الأوروبي، إذ إن هناك معلومات عن حجز عقارات وأسهم شركات وودائع تفوق قيمتها مئات ملايين الدولارات.
ويرى طعمة أن "هذا التراخي فوّت على لبنان إمكانية استعادة مبالغ ضخمة جرى تهريبها فأصبحت خارج الدورة الاقتصادية لو استردت أو كان بالإمكان حجزها لمصلحة الخزينة اللبنانية، هذا في وقت يعيش الشعب اللبناني تحت وطأة أسوأ أزمة اقتصادية، وبمقابل هذا الإهمال الفاضح، ها هو القضاء الأوروبي يفعل ذلك ليفيد بها خزينة تلك الدول التي تلاحق شبهات الفساد والفاسدين بجدية".
من جهته، يقول الكاتب الاقتصادي منير يونس لـ"العربي الجديد" إن القضية تُبحَث منذ أكثر من سنتين في أوروبا على صعيد ملفات تعنى بتبييض الأموال، إذ إن هناك حوالات خرجت من لبنان إلى بنك HSBC في جنيف ثم عددٍ من البنوك السويسرية والأوروبية و6 بنوك محلية، والتحقيقات تطاول عدداً من الشهود يتخطى عددهم الـ15، وشخصا يملك وساطة مالية يدعى نبيل عون ومدققي حسابات بمصرف لبنان، ونواب الحاكم، حاليين وسابقين، ومن المفترض أن يصار في مرحلة لاحقة إلى الاستماع إلى رياض سلامة، ومتوقع أن تزداد اللائحة الاسمية تبعاً لنتائج جولة التحقيق ليصار إلى الاستماع إلى أشخاص جدد.
ويشير يونس إلى أن "قضايا تبييض الأموال في أوروبا ليست بسيطة وغالباً تصل إلى نتائج، من دون أن ننسى أن الملف بات مثاراً على مستوى الإعلام العالمي ما يصعب عملية ضبطه أو تخبئته ويضغط على القضاء اللبناني للتعاون وتسهيل مهمة المحققين".
ويلفت إلى أن انعكاسات التحقيقات لها أهمية كبيرة اقتصادياً لأن لبنان في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والأطراف الدولية أصبحت معنية بالشأن الاقتصادي اللبناني وتراقب الإصلاحات، والتحقيقات كلها ستكون تحت المجهر، من هنا نشك أن يحصل اتفاق مع الصندوق أو تصل قروض ومنح دولية في حال قام القضاء اللبناني أو السلطات السياسية اللبنانية بعرقلة التحقيقات.
من جانبها، تقول المحامية جوديت التيني لـ"العربي الجديد" إنه "لا وجود لاتفاقيات خاصة تربط بين لبنان والدول التي تجري التحقيقات (فرنسا، لوكسمبورغ وألمانيا) وما يتم تطبيقه هو اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد 2003 وبالمناسبة فإنها أول اتفاقية دولية لمكافحة الفساد ملزمة دولياً وقد انضم إليها لبنان سنة 2008 وهو بذلك مرتبط بها وملزم ببنودها، لا سيما المادة 46 منها التي تُلزم لبنان بتقديم المساعدة القانونية في التحقيقات والملاحقات والإجراءات القضائية المتصلة بجرائم الفساد وتبييض الأموال".
يقول الكاتب الاقتصادي منير يونس لـ"العربي الجديد" إن القضية تُبحَث منذ أكثر من سنتين في أوروبا على صعيد ملفات تعنى بتبييض الأموال
وتشير التيني إلى أن "جرائم الفساد وتبييض الأموال عابرة للحدود الوطنية والتحقيق الذي يطاول شخصيات لبنانية، والذي يجري في لبنان من قبل الجهات الأجنبية، يعود لسبب وصول تلك الأموال إلى الدول التي يأتي منها المحققون لإجراء التحقيقات حيث الملفات مفتوحة والدعاوى قائمة، ولأن ارتكاب عناصر أو اجزاء من هذه الجرائم تمّ هناك. مع الإشارة إلى أنّ هناك ملف موجود في القضاء اللبناني، ولكن النظر فيه متوقف لعدة أسباب أهمها تضارب الصلاحية بين النيابات العامة المالية والاستئنافية والتمييزية".
وتلفت التيني إلى أنه "من بعد اتمام التحقيقات من قبل الوفد القضائي الأجنبي في القضايا المفتوحة في الدول الأجنبية فإنّ الادعاء يكون في هذه الدول".
وتوضح أن "هذه الاتفاقية أعطت دوراً للقاضي اللبناني وله أن يحضر الاستجوابات ويوجّه المحققين الأجانب الأسئلة للمستمع لهم عبر القاضي اللبناني، وهذا القاضي يُعيَّن من قبل النيابة العامة التمييزية"، مشيرة إلى أنه "لا يمكن التذرع بقانون السرية المصرفية اللبناني سنداً لصراحة البند الثامن من المادة 46 من الاتفاقية التي تمنع التذرع بالسرية المصرفية. كما لا يمكن أن يتم توقيف المستمع لهم من قبل القضاة الأجانب في الوفد".
وتشير أيضاً التيني إلى أن "النيابة العامة التمييزية وضعت الآلية القانونية المناسبة لعمل الوفد القضائي الأوروبي، واشترطت توحيد الإجراءات كي لا يتم تبليغ الأشخاص المعنيين بالتحقيق ثلاث مرات كون الدول التي تحقق هي ثلاث، وذلك اختصاراً للوقت والإجراءات. كما أنّ الوفد موحّد وتم تقسيم العمل بين أعضائه وتحديد جدول زمني وخطة عمل. والاستجوابات ستتم في قصر العدل في بيروت".
تجدر الإشارة إلى أن أخباراً تم تداولها حول تدخل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لعدم استجواب سلامة وشقيقه، الأمر الذي نفاه مكتب ميقاتي الإعلامي. وأكد أنه لا يتدخل في عمل السلطة القضائية، مع العلم أن سلامة بالدرجة الأولى رفض أكثر من مرة المثول أمام القضاء اللبناني، رغم تعدد الطلبات للاستماع إليه وصدور أمر قضائي بإحضاره.