قبل أيام من انطلاق مؤتمر دافوس الشهر الماضي، وفي حدث بات روتينيا كل عام نشرت منظمة أوكسفام تقريراً عن حجم الثروة في العالم، أشار إلى أن ثروات المليارديرات زادت بمقدار 3.3 ترليونات دولار منذ العام 2020، بينما أصبح ما يقرب من 5 مليارات شخص على مستوى العالم أكثر فقراً، يواجهون التضخم والحرب وشتى أنواع الأزمات، وسوف يستغرق الأمر ما يقرب من 230 عاماً للقضاء على الفقر استناداً إلى المسار الحالي.
يحار المرء فعلاً في تناول هذا التقرير، أيقرأه للدلالة على شفافية العالم الذي نعيش فيه والانفتاح والتطور والعولمة، وأن الفرصة متاحة دوماً لمن أراد أن يدخل عالم المليارديرات، أم على تُعس القسم الآخر من السكان وزيادة أعداد الفقراء الذين يكافحون لتلبية احتياجاتهم الإنسانية وحسب.
هل هو إنجاز وكدح شخصي يقف وراء تحقيق تلك الثروات، هل تكمن المسألة في زيادة ساعات العمل والاجتهاد والجرأة، أم تكمن في عدم العدل والمساواة بتوزيع الثروات، أم أن العيب يكمن في جوهر النظام الاقتصادي الذي نعيش فيه؟
الثراء جهد فردي؟
أسهل ما يمكن كتابته في معرض نقاش هذا السؤال، أن الدخول لعالم المليارات يأتي نتيجة العمل الشاق والذكاء الحاد والمثابرة. عليك أن تعمل أكثر، وتنام أقل، وتقلّد الأثرياء في طريقة تفكيرهم وطعامهم ونومهم، عليك أن تقرأ ما قرأوا لتتمكن من الدخول إلى هذا النادي.
ويتم دعم هذه المقاربة بالعديد من قصص النجاح لأثرياء نجحوا في جمع ثروات هائلة بفضل عملهم المضني واختراعاتهم وجرأتهم والاستكشاف والاستثمار.
وهنا لا أسعى إلى نقاش هذه الحالة، فهي حالات خاصة مهما كثرت، ولكل مجتهد نصيب، كما لا يمكن لوم أشخاص ورثوا مليارات من آبائهم وأصبحوا مع عوائلهم أثرياء دون تعب. ولست مهتماً أيضاً بتعريف الثري وحجم ما يملك من أصول، ولماذا الغني غني والفقير فقير.
سأنقل النقاش من الخاص إلى العام، إلى نقطة جوهرية لا يزال هناك مساحة واسعة لنقدها تنطلق من التساؤلات التالية: لماذا زادت الثروات على الرغم من دخول العالم في أزمات اقتصادية حادّة خلال الأعوام الثلاثة الماضية؟ ولماذا أصبح أكثر من 5 مليارات شخص في العالم أكثر فقراً؟ سأذكر هاهنا خمسة أسباب:
أولاً: الوصول إلى الموارد الاقتصادية والفرص، فالنظام الاقتصادي الذي نعيش فيه يميل بسبب هيكليته إلى تركيز الثروة في أيدي قلة قليلة من البشر، لديها وصول إلى الأموال والفرص الاستثمارية والمعلومات قبل وأكثر من غيرهم. تتيح هذه المزايا لهذه الفئة استغلال الملاءة المالية ومعرفة ما سيحدث قبل أن يحدث واستغلال الفرص الجديدة، سواءً كان من خلال الاستثمار في الأسواق المالية، أو الأصول المالية الأخرى.
وبفضل الوصول السريع والسهل للمعلومة تبيع هذه الفئة الأصول بأسعار باهظة وتشتري بأسعار رخيصة، فتجني أرباحاً كبيرة.
ثانياً: تعود السياسات النقدية المتشددة أو التوسعية بالنفع على أصحاب المال، فخفض أسعار الفائدة وبرامج شراء الأصول من قبل البنوك المركزية بهدف تحفيز الاقتصاد واستقرار الأسواق المالية، يؤدي لرخص تكلفة الأموال، وسهولة الاقتراض والتوسع بالأعمال والمشاريع، وانتعاش أسواق الأسهم.
وهذه كلها تفيد أصحاب الأموال بالدرجة الأولى. وعلى العكس فإن رفع أسعار الفائدة وجعل تكلفة الأموال المقترضة عالية التكلفة يفيد أيضاً الأثرياء من دون جهد وتعب من خلال جعل الفائدة المركبة تعمل عملها وحسب.
ثالثاً: التكنولوجيا، عندما ضربت جائحة كورونا العالم في العام 2020 عجّلت الأزمة الاقتصادية وسياسات الحكومات من التحول الرقمي والتكنولوجي، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لتوسع شركات التقنية على كافة اختصاصاتها لتحقيق أرباح هائلة، ما عاد بالنفع على أصحاب تلك الشركات والمساهمين فيها. مع التأكيد أن التقنية العالية لا يزال وصولها متباينا بين دول العالم.
رابعاً: لنتكلم بلغة الأثرياء والفقراء، هذه الهوة بين الفئتين ناجمة عن عدم المساواة في النظام الضريبي. فالنظم الضريبية في البلدان الغنية، والتي يتجمع فيها الأثرياء، تفتقر إلى العدالة والتوزيع العادل للثروة.
بالإضافة إلى توفر بلدان تتبع أنظمة ضريبية مخففة جداً سميت "جنة ضريبية" و"ملاذا ضريبيا" تسمح لأصحاب المليارات بتقليل حجم التزاماتهم الضريبية ما يعزز من زيادة ثرواتهم، ويترك للفقراء الشوارع للتظاهر والمطالبة بتطبيق عادل للضرائب.
خامساً: من قال إن الثري يتأثر بالأزمة الاقتصادية أساساً؟ بل دائماً ما تشكل الأزمة فرصة لزيادة الثراء من خلال البحث عن الفرص الاستثمارية واستغلال انخفاض الأسعار.
وحتى لو تسببت الأزمة في إفلاس الشركة، هناك مخارج كثيرة لعدم التأثر من خلال الركون لقوانين الحماية من الإفلاس، والاقتراض من البنوك، والحصول على منح مالية من الحكومة، وتوظيف شركات قانونية كفوءة ومستشارين للخروج من الأزمة، وحتى إنه يحصل على حماية من المجتمع المحلي عبر الأمثال الشعبية "ارحموا عزيز قوم ذل"، وغيرها من الطرق التي يلجأ إليها الأثرياء في حال تعرضهم أو تأثرهم بالأزمات.
في المقابل تؤثر الأزمة بالفئات الضعيفة في المجتمع وحسب! من خلال فقدان الوظائف، وارتفاع الأسعار، وانخفاض الدخل، وتآكل القوة الشرائية، والوصول المحدود إلى السلع والخدمات الأساسية، وهو ما يؤدي إلى تفاقم حالة الفقر. كما حصل تماماً في أوقات جائحة كورونا وما لحقها من أزمات.
ترليونات الأوراق النقدية
فقد ارتفعت ثروة إيلون ماسك إلى 245.5 مليار دولار بنهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 بزيادة قدرها 737% عن مارس/ آذار 2020 بعد احتساب معدل التضخم.
شهد ماسك وغيره من المليارديرات نموا في ثرواتهم بمقدار 3.3 ترليونات دولار منذ العام 2020. وعلى هذه الحالة، من غير المستبعد أن نشهد دخول هؤلاء الأشخاص نادي الترليونات في العقود القادمة إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه!
سأدخل في صُلب المشكلة، لقد شهد العالم منذ بداية القرن الماضي تحولات اقتصادية عميقة تسببت في تغيير جوهري بمفهوم الثروة وكيفية توزيعها. أنا لا أقول إنه لم يكن هناك أثرياء في القرون الماضية! إطلاقاً. لكن تجميع الثروة وتوزعها على أفراد المجتمع هو ما تغيّر.
عقب انفصال النظام النقدي عن الذهب والفضة وهيمنة الورق النقدي الحكومي على النظام النقدي العالمي، حدث انفصال بين النقد كوسيلة للتداول والتبادل والاكتناز من جهة، وجوهر القيمة من جهة أخرى والتي يعد العمل أساساً لها، فمصدر القيمة هو العمل وليست الورقة النقدية.
تقوم البنوك المركزية بتوجيه من الحكومات بضخ كميات كبيرة من النقود في الاقتصاد عبر ما يعرف بسياسات التيسير الكمي والفائدة المنخفضة، فالورقة النقدية الحكومية تعد من فئات "النقد السهل" نظراً لقدرة الحكومة على طباعتها كيفما ومتى شاءت، على خلاف الذهب مثلاً الذي يعد من "النقد الصعب"، إذ يبذل العالم جهودا مضنية لإنتاج نحو 1% من الذهب المتوفر في باطن الأرض سنوياً.
ما أقصده أن المليارات التي هبطت في حسابات الأثرياء وزادت من ثرائهم بشكل مبالغ فيه، مصدرها تدخلات الحكومة وطباعة الأوراق النقدية، فارتفاع سهم شركات مثل تسلا وأمازون ومايكروسوفت وغيرها خلال السنوات القليلة الماضية جاء بعد ضخ الحكومات نقوداً على شكل مساعدات ومنح، وجدت طريقها إلى أسواق الأسهم لتخلق طلبا عاليا أدى لارتفاع الأسعار، وبالتالي ارتفاع ثروة الملاك بطبيعة الحال.
تخيل لو أن الحكومة الأميركية تعتمد على معيار الذهب فلن يكون بمقدورها زيادة إنتاج الذهب ومنح أوراق نقدية للسكان كتعويض ومساعدات نقدية، ما الذي سيحصل في أسواق الأسهم في هذه الحالة؟ إما الاستقرار وبقاء ثروة الملاك ثابتة، أو الهبوط بسبب انخفاض الطلب، وبالتالي انخفاض ثروة الملاك.
تصرفات الحكومات حول العالم، بل النظام الاقتصادي المتبع يعزز من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين السكان، فيتحول الورق الحكومي من كونه أداة لتحفيز الاقتصاد إلى أداة لزيادة ثراء الأثرياء الذين يملكون أدوات الإنتاج، دون المساهمة في تحسين معيشة سكان الأرض.
ستبقى منظمة أوكسفام تتحف العالم بتقاريرها. قبل مؤتمر "دافوس" تظهر البيانات أن 1% من الأكثر ثراءً حول العالم استحوذوا على 26 ترليون دولار أو 63% من الثروة الجديدة، أي ما يقرب من ضعف ما تمتلكه بقية دول العالم مجتمعة.
بينما يعيش 1.7 مليار عامل في دول حيث التضخم يتجاوز الأجور، ما يفاقم تكاليف المعيشة لغالبية سكان الأرض، وواحد من كل 10 أشخاص على الأرض يعانون من الجوع. ويأتي أشخاص يروّجون أن ثراء الأثرياء جاء من اجتهادهم وقدرتهم على الاستثمار والتحمل والنوم لـ4 ساعات فقط. مع الأسف!