كيف تستفيد مصر من أزمة البصل العالمية؟

05 يونيو 2023
مصر تزرع في حدود 200 ألف فدان سنوياً من البصل (الأناضول)
+ الخط -

ضربت أسواق العالم والدول العربية موجة ارتفاع حادة في أسعار البصل. وبسبب الأزمة غير المسبوقة، حذّرت الأمم المتحدة والبنك الدولي من القيود التي تفرضها حكومات الدول على صادرات البصل وأدت إلى غيابه عن الأسواق في جميع أنحاء العالم.

في المملكة المتحدة، أجبرت الرفوف الفارغة المتاجر على تقنين مشتريات البصل بكمية محددة بسبب نقص الإمدادات الناتج عن المحصول الضعيف في إسبانيا وشمال إفريقيا.

وتجلت الأزمة في الفيليبين، فتجاوزت أسعار البصل أسعار اللحوم، ووصلت إلى 13 دولاراً للكيلوغرام الواحد، وهو ما يزيد عن الحد الأدنى اليومي للأجور في العاصمة مانيلا. وأصيب الناس بالذهول من وقع الأزمة غير المسبوقة، حتى أن وسائل الإعلام العالمية تناقلت صورة تذكارية لعروس في حفل زفافها وهي تحمل في يديها ربطة من البصل بدلا من باقة الزهور.

وقالت العروس إنها طلبت من عريسها أن تحمل البصل بدلاً من الزهور، لأنه بعد الزفاف ستذبل الأزهار وينتهي الأمر بالتخلص منها، أما البصل فيمكن في ظل الأزمة استخدامه في الطهي بعد الزفاف، كما أن الضيوف سيكونون قادرين على أخذ واحدة منه باهظة الثمن إلى المنزل.

وفي الانتخابات التركية الأخيرة، لم يغب البصل عن السياسة، ورغم الإنجازات في إنتاج الغواصات والسيارات الكهربائية وحاملات الطائرات والمقاتلات النفاثة وكشوف الغاز الطبيعي، اتهم كمال كلجدار أوغلو زعيم المعارضة والمنافس الثاني على كرسي الرئاسة، الرئيس أردوغان بالفشل في ادارة الاقتصاد لعجزه عن توفير البصل الذي ارتفعت أسعاره.

وفي مصر، علقت وكالة بلومبيرغ الأميركية على ارتفاع أسعار البصل بقولها، إن الكشري، وهو الطبق الشعبي الرخيص في مصر، والمحصن ضد الأزمات الاقتصادية القائمة، والمحبب إلى جميع فئات الشعب، قفز سعره بنسبة 59% بسبب ارتفاع أسعار مكوناته والتي منها رقائق البصل المقلي.

وفي قيرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان، حيث أكبر مستهلكي البصل في العالم بفضل طبق القرطوب الشعبي الغني بالبصل، حظرت السلطات تصدير البصل في الدول الثلاث للتغلب على ارتفاع الأسعار. وفي كازاخستان، هبت الشرطة لتأمين إمدادات البصل إلى محلات السوبر ماركت وتنظيم الناس المتدافعين على شراء السلعة الغائبة، وحث وزير التجارة الناس هناك على عدم شراء البصل في كيس، والاكتفاء بالشراء بالحبة.

أسباب أزمة البصل

تراجع الإنتاج العالمي من البصل بسبب السيول التي ضربت باكستان في موسم الزراعة السابق، وهو صاحب المركز السابع عالميا في ترتيب الدول المصدرة للبصل بنسبة 3.7%، إضافة إلى الجفاف الذي حل في البلدان الأوروبية، والذي اعترف الخبراء بأنه الأقوى منذ 500 عام، وهي من أكبر موردي البصل للسوق العالمية. فمن بين أكبر 15 دولة مصدرة للبصل في العام 2021، وفرت دول الاتحاد 30% من الإمدادات إلى السوق العالمية.

وأيضا الأزمة في أوكرانيا. ففي حين أنتجت أوروبا بأكملها، الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة حوالي 6.3 ملايين طن من البصل، تنتج أوكرانيا وحدها منذ عام 2010 حوالى مليون طن سنويًا. وفي عام 2022، بلغ إنتاج أوكرانيا ما يزيد قليلاً عن 700 ألف طن، بانخفاض 29% عن العام السابق بسبب الحرب المحتدمة على أراضيها.

أظهرت الأزمة المكانة العالمية للبصل، مع إمكانية تسببه في إشعال الاضطرابات الشعبية مثل الخبز. في الهند، التي حظرت صادرات البصل لسنوات، تسببت أسعاره المرتفعة لخسارة حزب بهاراتيا جاناتا الانتخابات في نيودلهي في عام 1998. وبعد عقدين، رفع رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، شعارا في حملة إعادة انتخابه يفيد بأن مزارعي الطماطم والبصل والبطاطس، هم أهم أولوياته.

ورغم أن الحبوب الغذائية تشكل المكون الرئيس للأمن الغذائي العالمي في مواجهة الجوع، فإن بعض الأغذية مثل البصل مهمة لرفاهية السكان. فهو أكثر الخضروات إنتاجا واستهلاكا بعد الطماطم، وإن صنفت الأخيرة نباتيا ضمن الفواكه، حيث ينتج نحو 106 ملايين طن سنويا من البصل. وهي تعادل تقريبا إنتاج الجزر واللفت والفلفل والثوم مجتمعة. ويدخل في كل مكونات الطعام تقريبا حول العالم، بدءًا من خلطات الكاري والحساء، إلى إضافات اللحوم والدواجن المصنعة والنقانق. وفي الولايات المتحدة، تم حظر تداول العقود الآجلة لتجارة البصل منذ عام 1958 لمنع احتكاره في السوق.

خسائر مزارعي البصل المصري

تنتشر زراعة البصل في جميع محافظات مصر تقريبا، ويزرع ثلاث مرات أو عروات على مدار العام، وهي العروة الشتوية، والنيلية، والصيفية. وتزرع مصر في حدود 200 ألف فدان سنوياً من البصل، ويُقدر الإنتاج بنحو 3 ملايين طن سنويًا. وهو من المحاصيل كثيفة استخدام العمالة الزراعية، لذا فهو فرصة لعلاج البطالة وتشغيل أعداد كبيرة من العمالة الزراعية، إذ يحتاج الفدان الواحد إلى تشغيل أكثر من 30 عاملا موزعين خلال موسم الزراعة والخدمة والحصاد. ويحتاج الفدان لعدد مماثل في مفارش التخزين ومحطات الفرز والتعبئة والتصدير.

ويعد البصل من المحاصيل النقدية في مصر، والتي تدر عائداً مباشراً للفلاح، فهو ثالث أهم المحاصيل التصديرية، بعد الموالح والبطاطس، بمعدل نحو 600 ألف طن من البصل الطازج، و20 ألف طن من البصل المجفف، والتي تنتج من تجفيف 200 ألف طن من البصل الطازج. وبعد تخفيض مساحة الأرز ووقف التصدير، وتدهور مكانة القطن، فإن البصل هو المحصول التصديري الأهم والوحيد الذي يستطيع الفلاح البسيط بيعه للمصدرين دون تصريح من الحكومة، بعكس محاصيل البطاطس والفراولة والعنب، فهي لا تصدر إلا بتصريح من وزير الزراعة، ويحتكر تصديرها المستثمرون المقربون من الحكومة.

ورغم نقص المعروض في السوق الدولية وزيادة الطلب العالمي وارتفاع الأسعار، يتكبد مزارعو البصل في مصر على وجه الخصوص خسائر كبيرة طوال السنوات العشر الماضية، وصلت في العامين الماضيين إلى 500 دولار في كل فدان، وانخفض سعر الجملة في الحقل لموسمين متواليين إلى ما بين نصف جنيه وجنيه واحد للكيلو غرام. ويرجع ذلك إلى العشوائية في الزراعة وتذبذب المساحة من سنة إلى أخرى وغياب التركيب المحصولي الذي يوازن بين الإنتاج والاستهلاك. وغالبا ما يزيد الإنتاج عن ضعف معدل الاستهلاك المحلي.

وكذلك بسبب إغلاق الدول أبواب التصدير أمام البصل المصري في مواسم عديدة خلال العقد الماضي بحجج باطلة وغير علمية، منها زيادة نسبة متبقيات المبيدات والري بمياه الصرف الصحي. وكتبت عدة مرات للدفاع عن جودة المنتج المصري ضد المزاعم الباطلة. وكشفت عن الأسباب وراء رفض البصل المصري، ومنها المصالح التجارية بين الحكومات المستوردة والمصدرة، فترفض روسيا ودول أوروبا شحنات البصل المصري، إذا توفر البديل المنافس من إسبانيا أو هولندا. وابتزاز الحكومة المصرية لتقبل باستيراد القمح المصاب بعفن الإرجوت من هذه الدول المستوردة للبصل، بحجة المعاملة بالمثل، وهو حدث في سنة 2016 وما بعدها.

وأوقفت أكبر دول الخليج المستوردة للبصل المصري الاستيراد من مصر بسبب المصالح السياسية مع الهند، المنافس الأول لمصر في تجارة البصل الدولية. وكذلك بسبب الأزمات السياسية مع الحكومات في دول الجوار والتي تعتبر سوقا قريبة ومفتوحة أمام المنتج المصري بلا اشتراطات معقدة كتلك التي تشترطها روسيا وأوروبا. وكنت أقول إن دليل تعنت هذه الدول هو أنها كانت تفتح باب الاستيراد في نفس الموسم الزراعي بعد زوال الأسباب السياسية، ولو أن البصل المصري ملوث بمتبقيات المبيدات أو بمياه الصرف ما قبلت استيراده في نفس الموسم على الأقل.

مكانة عالمية للبصل المصري

رغم الواقع المؤسف، فإن لمصر مكانة عالمية تاريخية راسخة في تجارة البصل الطازج والمجفف. وتحتل المرتبة الثالثة في ترتيب الدول الأكثر إنتاجا بعد الصين والهند. ويتميز البصل المصري الطازج عالميا بصفات جودة فريدة، تشمل الحرافة العالية وتحمّل عمليات التداول والشحن والنقل والقدرة التخزينية لفترات طويلة، ووفرة الإمداد طوال العام. وتمتلك مصر أصناف البصل الفريدة المستنبطة محليا في مركز البحوث الزراعية، والمناخ والبيئة الزراعية المواتية، ومياه النيل العذبة، والفلاح المصري صاحب الخبرة المتراكمة.

موقف
التحديثات الحية

صناعة البصل المجفف رائجة عالميا أيضا، وهي من الصناعات الناجحة في مصر، وتحتل المرتبة الثالثة في تصدير البصل المجفف، والمرتبة الأولى من حيث الجودة والسعر الأعلى. ويرجع ذلك لأصناف البصل المصرية المتميزة في صفات الجودة التصنيعية، وخاصة البصل الصعيدي، المتميز في نسبة المواد الصلبة والحريفة والنكهة المتميزة القوية الثابتة. وتصدر نحو 20 ألف طن من البصل المجفف، بقيمة 52 مليون دولار، تستورد دول أوروبا 50% منها، والباقي يصدر إلى اليابان وروسيا وأميركا وكندا والمملكة المتحدة، ودول أميركا اللاتينية. وتنافس مصر الهند والولايات المتحدة والصين كأكبر دول العالم تصديرا للبصل المجفف.

وحتى تستفيد مصر من هذه الميزات التنافسية في سوق البصل الدولية، يحتاج مزارع البصل المصري إلى تطبيق الحكومة الزراعة التعاقدية حتى يضمن بيع المحصول بسعر مربح، وتوفير البذور المستنبطة والإرشاد الزراعي وميكنة الزراعة والحصاد. وكذلك وضع تركيب محصولي قومي يحدد المساحة المزروعة التي تلبي احتياجات السوق المحلية من البصل الطازج وتفي بعروض التصدير الطازج والمجفف، وتمنع التذبذب في الإنتاج، وكذلك خريطة تصديرية صلبة ومستدامة.

وحتى تكون قيمة مضافة لقطاع الصناعات الزراعية المصرية وزيادة فرص العمل وعلاج البطالة وفقر الفلاحين، فإن تحديث صناعة تجفيف البصل المحلية بتكنولوجيا التجفيف والتعبئة والتغليف الحديثة، يمثل فرصة للمنافسة العالمية وزيادة الدخل القومي من العملة الأجنبية وامتصاص الفائض من البصل الطازج إذا زاد إنتاج الدول المنافسة.

المساهمون