قلت في المقال السابق إنّ مصر تعاني من أزمة مالية تحدثت عنها أخيراً عدة مؤسسات مالية دولية ووكالات تصنيف عالمية كبرى منها صندوق النقد الدولي.
هذه الأزمة تضغط على المواطن والأسواق في صورة قفزات في أسعار السلع والخدمات بما فيها السلع الغذائية، وتضغط على العملة المحلية في شكل تراجع في قيمة الجنيه أمام الدولار، وعلى الموازنة العامة من حيث تحميلها عبء سداد قروض محلية وخارجية بقيمة 960.4 مليار جنيه في العام المالي المقبل 2022-2023، وهو مبلغ يقترب من إيرادات الضرائب في عام كامل، ويفوق مخصصات الأجور والرواتب وشراء السلع والخدمات والمخصصات الأخرى مجتمعة.
ولذا فإنّ على صانع القرار أن يعمل من الآن، وليس الغد، على تطبيق خطة عاجلة لاحتواء الأزمة المالية التي يمكن أن تنفجر في وجه الجميع في أي لحظة، وتأكل الأخضر واليابس وتأتي بنتائج كارثية في حال تجاهلها أو ترحيلها للمستقبل.
وهنا يمكن أن تركز الخطة على عدة نقاط رئيسية قابلة للنقاش:
- العمل على تحقيق استقرار سياسي حقيقي غير قائم على الأمن السياسي والعصا الغليظة، بل قائم على مشاركة كلّ القوى السياسية في صنع القرار دون إقصاء لأحد، وتقوية السلم المجتمعي والجبهة الداخلية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين وإطلاق الحريات العامة، ورفع القيود عن الإعلام والحظر عن المواقع الإلكترونية.
هذه نقطة مهمة يمكن أن تساعد في جذب مزيد من الاستثمارات الخارجية والقضاء على أية حالة من الغموض وحالة عدم اليقين.
فالإصلاح الاقتصادي يبدأ من الإصلاح السياسي وردم هوة الانقسام المجتمعي المتواصل منذ سنوات، ومن التعامل على أرضية المواطنة والدستور والقانون، وهي أمور تشجع الاستثمار المحلي قبل الأجنبي وتطمئنه، وتزيد ثقة المؤسسات المالية الدولية في الخطوات الحكومية المقبلة حتى لو تضمنت خططاً تقشفية وزيادة أسعار.
- تشكيل حكومة تكنوقراط تضم كلّ الأطياف السياسية تكون مهمتها وضع خطة طوارئ اقتصادية ومكافحة الفساد والتهرب الضريبي وجذب الاستثمارات الخارجية، وتوفير الدعم للأسر الفقيرة والمتضررين من قفزات الأسعار، وإعادة النظر في بنود الموازنة العامة، بحيث تركز المخصصات على تمويل القطاعات المرتبطة مباشرة بالمواطن، مثل التعليم والصحة والسلع الغذائية وتوفير فرص عمل.
الموازنة العامة ستتحمل عبء سداد قروض محلية وخارجية بقيمة 960.4 مليار جنيه في العام المالي المقبل
وكذا التواصل مع كبار المستثمرين المصريين في الخارج، وطرح فرص جذابة عليهم وعدم مزاحمتهم من قبل الدولة، وطمأنتهم على أموالهم، والاستفادة من موارد الدولة، خاصة الأصول والشركات والأراضي الضخمة المملوكة للوزارات والهيئات في وسط المدن الكبرى، مثل القاهرة والإسكندرية.
- إعطاء أولوية قصوى لملف إنتاج الحبوب في السنوات المقبلة، خاصة القمح والذرة والشعير والأرز، فالاكتفاء الذاتي من تلك السلع الاستراتيجية يحقق الأمن الغذائي للمواطن، ويوفر لموازنة الدولة أكثر من 15 مليار دولار هي كلفة تلك الواردات سنوياً، كما يتيح للدولة تفادي التعرض لضغوط وتقلبات الأسواق الدولية وتذبذب الأسعار وانتهازية البائعين الدوليين.
- وقف أي خطط حكومية لزيادة الضرائب والرسوم والأسعار إلى حين إعادة الأمور إلى نصابها واستقرار الأسعار والأسواق وتحسن القدرة الشرائية للمواطن، مع امكانية تجميد بعض أنواع الضرائب المرهقة للمواطن والتي تتسبب في زيادة الاسعار مثل ضريبة القيمة المضافة.
- وقف بناء السجون الجديدة التي تكلف موازنة الدولة مليارات الجنيهات، خاصة أنّ الإفراج عن آلاف المعتقلين السياسيين وأصحاب الرأي سيحلّ مشكلة التكدس داخل السجون.
على أن توجه الأموال المخصصة لبناء السجون الجديدة نحو تمويل إقامة مصانع جديدة ومشروعات صغيرة ومتوسطة، وحل أزمة المصانع المتعثرة والتي يمكن أن توفر فرص عمل لمئات الآلاف من الشباب في حال إعادة فتحها.
- وضع قيود شديدة على الواردات، خاصة السيارات الفارهة والهواتف المحمولة والجمبري والاستاكوزا والملابس والجبن الفرنسي، وكذا على جميع السلع الترفيهية التي تستنزف مليارات الدولارات من احتياطي النقد الأجنبي المتراجع.
- الدخول في مفاوضات مع دول الخليج حول الديون المستحقة لها والتي تزيد عن 20 مليار دولار بحيث يتم إسقاطها أو تحويلها من قروض أو ودائع مساندة إلى استثمارات مباشرة لا تذهب لشراء أصول مصرية من بنوك وشركات وإنّما لإقامة مصانع جديدة توفر فرص عمل حقيقية. وفي أضعف الإيمان يتم تحويل هذه القروض من قصيرة أو متوسطة الأجل إلى فترات طويلة من دون إضافة أعباء مالية.
- تجميد أيّ مشروع جديد يعتمد في تمويله على الاقتراض الخارجي، خاصة تلك المشروعات التي لم يبدأ تنفيذها بعد، ولا تمثل أولوية أو قيمة مضافة للاقتصاد والمواطن أو توجد لها بدائل محلية.
من بين هذه المشروعات القطار السريع البالغة كلفته 360 مليار جنيه، وهو مبلغ ضخم سيتم تدبيره عبر القروض الخارجية ويخدم طبقة رجال الأعمال وقاطني الساحل الشمالي، ويمكن تأجيل مشروع المحطة النووية بالضبعة التي تزيد كلفتها عن 30 مليار دولار يتم اقتراضها من الخارج، خاصة مع توافر فائض ضخم من إنتاج الكهرباء سواء من محطات شركة سيمنس الألمانية أو غيرها.
وكذا مشروع إقامة أبراج ومبان إدارية في العاصمة الإدارية الجديدة بقرض صيني يبلغ 3 مليارات دولار، وينطبق ذلك على القصور ومقار الحكومات والبرلمان، ومشروعات أخرى أعلنت عنها الحكومة لكنها لم ترَ النور بعد، مثل النهر الأخضر، الذي سيتم شقه في العاصمة الإدارية بطول 35 كم، وكذا مشروع إقامة أكبر دار للأوبرا في الشرق الأوسط.
- لجم القروض الخارجية والتوقف فوراً عن الحصول على قروض جديدة، إلا إذا كانت طويلة الأجل وبشروط ميسرة وبسعر فائدة منخفض وأعباء إدارية قليلة وتمثل ضرورة قصوى.
- في حال الاضطرار إلى الاقتراض الخارجي لا يتم إلّا لتمويل مشروعات تدر عائدا بالدولار أو النقد الأجنبي يتم من خلاله سداد أعباء وأقساط الدين الخارجي، وهنا يتحمل المشروع كلفة سداد أعباء الدين وليس الموازنة العامة أو الاحتياطي النقدي الأجنبي، وهذا ينطبق على مشروعات التصنيع والتصدير والسياحة والأمن الغذائي والأدوية وغيرها. وكذا تمويل المشروعات التي تساهم في الحد من الواردات الخارجية، خاصة لسلع تستنزف الاحتياطي الأجنبي، مثل القمح والزيوت والحبوب بكلّ أنواعها.
- تنشيط الأنشطة الاقتصادية المدرة للنقد الأجنبي، وأبرزها الصادرات الخارجية والاستثمارات المباشرة والسياحة، وترشيد الإنفاق الحكومي، وتشجيع المصريين العاملين في الخارج على زيادة تحويلاتهم إلى الداخل وطمأنتهم على أموالهم.
هذه بعض المقترحات التي يمكن أن تساهم، في حال تطبيقها وغيرها، في الحد من تأثيرات الأزمة المالية الحالية التي تواجه مصر.